حمل المصحف

Translate ترجم الي اي لغة تختارها داد7.

الجمعة، 10 فبراير 2017

24 3 ثانوي / استاتيكا الصف الثالث الثانوي

استاتيكا 3 ث
استاتيكا رابط سلايد شير
3 ثانوي / استاتيكا الصف الثالث الثانوي
--------------------


 
































---------------
32 of 32
-----------------
استاتيكا رابط سلايد شير





------------------------------

23 (من الآية 278 الي286 آخر سورة البفرة تفسيرا)


 (من الآية 278 الي {286}آخر سورة البقرة تفسيرا) 


 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ( 279 ) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 280 ) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبْتُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( 281 ) 

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ ، نَاهِيًا لَهُمْ عَمَّا يُقَرِّبُهُمْ إِلَى سَخَطِهِ وَيُبْعِدُهُمْ عَنْ رِضَاهُ ، فَقَالَ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ) أَيْ : خَافُوهُ وَرَاقِبُوهُ فِيمَا تَفْعَلُونَ ( وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ) أَيِ : اتْرُكُوا مَا لَكَمَ عَلَى النَّاسِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْأَمْوَالِ ، بَعْدَ هَذَا الْإِنْذَارِ ( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) أَيْ : بِمَا شَرَعَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ تَحْلِيلِ الْبَيْعِ ، وَتَحْرِيمِ الرِّبَا وَغَيْرِ ذَلِكَ .

وَقَدْ ذَكَرَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ ، وَالسُّدِّيُّ : أَنَّ هَذَا السِّيَاقَ نَزَلَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ مِنْ ثَقِيفٍ ، وَبَنِي الْمُغِيرَةِ مَنْ بَنِي مَخْزُومٍ ، كَانَ بَيْنَهُمْ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَدَخَلُوا فِيهِ ، طَلَبَتْ ثَقِيفٌ أَنْ تَأْخُذَهُ مِنْهُمْ ، فَتَشَاوَرُوا وَقَالَتْ بَنُو الْمُغِيرَةِ : لَا نُؤَدِّي الرِّبَا فِي الْإِسْلَامِ . فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ نَائِبُ مَكَّةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَكَتَبَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) فَقَالُوا : نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ ، وَنَذَرُ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ، فَتَرَكُوهُ كُلُّهُمْ .

وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ ، لِمَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى تَعَاطِي الرِّبَا بَعْدَ الْإِنْذَارِ ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : ( فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ ) أَيِ : اسْتَيْقِنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَتَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ رَبِيعَةَ بْنِ كُلْثُومٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآكِلِ الرِّبَا : خُذْ سِلَاحَكَ لِلْحَرْبِ . ثُمَّ قَرَأَ : ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ )

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) فَمَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الرِّبَا لَا يَنْزَعُ عَنْهُ فَحَقٌّ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَتِيبَهُ ، فَإِنْ نَزَعَ وَإِلَّا ضَرَبَ عُنُقَهُ

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ ، عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ ، أَنَّهُمَا قَالَا : وَاللَّهِ إِنَّ هَؤُلَاءِ الصَّيَارِفَةَ لَأَكَلَةُ الرِّبَا ، وَإِنَّهُمْ قَدْ أَذِنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَلَوْ كَانَ عَلَى النَّاسِ إِمَامٌ عَادِلٌ لَاسْتَتَابَهُمْ ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا وَضَعَ فِيهِمُ السِّلَاحَ . وَقَالَ قَتَادَةُ : أَوْعَدَهُمُ اللَّهُ بِالْقَتْلِ كَمَا تَسْمَعُونَ ، وَجَعَلَهُمْ بَهْرَجَا أَيْنَمَا أَتَوْا ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا خَالَطَ هَذِهِ الْبُيُوعَ [ ص: 717 ] مِنَ الرِّبَا ; فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْسَعَ الْحَلَالَ وَأَطَابَهُ ، فَلَا تُلْجِئَنَّكُمْ إِلَى مَعْصِيَتِهِ فَاقَةٌ . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ .

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ : أَوْعَدَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا بِالْقَتْلِ . رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ 

وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ : وَلِهَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ لِأُمِّ مُحِبَّةَ ، مَوْلَاةِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ ، فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ : أَخْبِرِيهِ أَنَّ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَطَلَ ، إِلَّا أَنْ يَتُوبَ ، فَخَصَّتِ الْجِهَادَ ; لِأَنَّهُ ضِدَّ قَوْلِهِ : ( فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) قَالَ : وَهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَهُ كَثِيرٌ . قَالَ : وَلَكِنَّ هَذَا إِسْنَادُهُ إِلَى عَائِشَةَ ضَعِيفٌ .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : ( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ ) أَيْ : بِأَخْذِ الزِّيَادَةِ ( وَلَا تُظْلَمُونَ ) أَيْ : بِوَضْعِ رُؤُوسِ الْأَمْوَالِ أَيْضًا ، بَلْ لَكُمْ مَا بَذَلْتُمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ وَلَا نَقْصٍ مِنْهُ .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِشْكَابٍ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى ، عَنْ شَيْبَانَ ، عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ الْبَارِقِيِّ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ : " أَلَا إِنَّ كُلَّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ عَنْكُمْ كُلُّهُ ، لَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ، وَأَوَّلُ رِبًا مَوْضُوعٍ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، مَوْضُوعٌ كُلُّهُ " كَذَا وَجَدْتُهُ : سُلَيْمَانَ بْنَ الْأَحْوَصِ .

وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ : حَدَّثَنَا الشَّافِعِيُّ ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى ، أَخْبَرَنَا مُسَدَّدٌ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ ، حَدَّثَنَا شَبِيبُ بْنُ غَرْقَدَةَ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " أَلَا إِنَّ كُلَّ رِبًا مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ " .

وَكَذَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِي حُرَّةَ الرَّقَاشِيِّ ، عَنْ عَمْرٍو هُوَ ابْنُ خَارِجَةَ فَذَكَرَهُ .

وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) : يَأْمُرُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ عَلَى الْمُعْسِرِ الَّذِي لَا يَجِدُ وَفَاءً ، فَقَالَ : ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ) [ أَيْ ] : لَا كَمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ أَحَدُهُمْ لِمَدِينِهِ إِذَا حَلَّ عَلَيْهِ الدَّيْنُ : إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ .

ثُمَّ يَنْدُبُ إِلَى الْوَضْعِ عَنْهُ ، وَيَعِدُ عَلَى ذَلِكَ الْخَيْرَ وَالثَّوَابَ الْجَزِيلَ ، فَقَالَ : ( وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أَيْ : وَأَنْ تَتْرُكُوا رَأْسَ الْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ وَتَضَعُوهُ عَنِ الْمَدِينِ . وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِذَلِكَ 

فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ [ النَّقِيبِ ] ، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ الرَّجَّانِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ الْمُقَوِّمُ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبُرْسَانِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ ، حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُظِلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ ، فَلْيُيَسِّرْ عَلَى مُعْسِرٍ أَوْ لِيَضَعْ عَنْهُ " .

حَدِيثٌ آخَرُ : عَنْ بُرَيْدَةَ ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا عَفَّانُ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ [ ص: 718 ] بْنُ جُحَادَةَ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُهُ صَدَقَةٌ " . قَالَ : ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ : " مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَاهُ صَدَقَةٌ " . قُلْتُ : سَمِعْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَقُولُ : " مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُهُ صَدَقَةٌ " . ثُمَّ سَمِعْتُكَ تَقُولُ : " مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَاهُ صَدَقَةٌ " ؟ ! قَالَ : " لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُهُ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ ، فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَاهُ صَدَقَةٌ)

حَدِيثٌ آخَرُ : عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْحَارِثِ بْنِ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ ، قَالَ [ الْإِمَامُ ] أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الْخَطْمِيُّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ : أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ ، وَكَانَ يَأْتِيهِ يَتَقَاضَاهُ ، فَيَخْتَبِئُ مِنْهُ ، فَجَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَخَرَجَ صَبِيٌّ فَسَأَلَهُ عَنْهُ ، فَقَالَ : نَعَمْ ، هُوَ فِي الْبَيْتِ يَأْكُلُ خَزِيرَةً فَنَادَاهُ : يَا فُلَانُ ، اخْرُجْ ، فَقَدْ أُخْبِرْتُ أَنَّكَ هَاهُنَا فَخَرَجَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : مَا يُغَيِّبُكَ عَنِّي ؟ فَقَالَ : إِنِّي مُعْسِرٌ ، وَلَيْسَ عِنْدِي . قَالَ : آللَّهَ إِنَّكَ مُعْسِرٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَبَكَى أَبُو قَتَادَةَ ، ثُمَّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " مَنْ نَفَّسَ عَنْ غَرِيمِهِ أَوْ مَحَا عَنْهُ كَانَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ .
حَدِيثٌ آخَرُ : عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ : حَدَّثَنَا الْأَخْنَسُ أَحْمَدُ بْنُ عِمْرَانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ ، عَنْ رِبْعَيِّ بْنِ حِرَاشٍ ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَتَى اللَّهُ بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، قَالَ : مَاذَا عَمِلْتَ لِي فِي الدُّنْيَا ؟ فَقَالَ : مَا عَمِلْتُ لَكَ يَا رَبِّ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي الدُّنْيَا أَرْجُوكَ بِهَا ، قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، قَالَ الْعَبْدُ عِنْدَ آخِرِهَا : يَا رَبِّ ، إِنَّكَ أَعْطَيْتَنِي فَضْلَ مَالٍ ، وَكُنْتُ رَجُلًا أُبَايِعُ النَّاسَ وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ ، فَكُنْتُ أُيَسِّرُ عَلَى الْمُوسِرِ ، وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ . قَالَ : فَيَقُولُ اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا أَحَقُّ مَنْ يُيَسِّرُ ، ادْخُلِ الْجَنَّةَ " .

وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَمُسْلِمٌ ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ ، عَنْ حُذَيْفَةَ . زَادَ مُسْلِمٌ : وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ . وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ .

حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ : تَجَاوَزُوا عَنْهُ ، لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا ، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ " .

حَدِيثٌ آخَرُ : عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، قَالَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، أَنَّ سَهْلًا حَدَّثَهُ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَازِيًا ، أَوْ غَارِمًا فِي عُسْرَتِهِ ، أَوْ مُكَاتَبًا فِي [ ص: 719 ] رَقَبَتِهِ ، أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ " ثُمَّ قَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ .

حَدِيثٌ آخَرُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ صُهَيْبٍ ، عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَرَادَ أَنْ تُسْتَجَابَ دَعْوَتُهُ ، وَأَنْ تُكْشَفَ كُرْبَتُهُ ، فَلْيُفَرِّجْ عَنْ مُعْسِرٍ " ، انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ .

حَدِيثٌ آخَرُ : عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَالِكٍ ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ ، عَنْ حُذَيْفَةَ ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، فَقَالَ : مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : مَا عَمِلْتُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَرْجُوكَ بِهَا ، فَقَالَهَا لَهُ ثَلَاثًا ، وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ : أَيْ رَبِّ كُنْتَ أَعْطَيْتَنِي فَضْلًا مِنَ الْمَالِ فِي الدُّنْيَا ، فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ ، فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ ، وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ . فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : نَحْنُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْكَ ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي . فَغَفَرَ لَهُ . قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ : هَكَذَا سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ بِهِ .

حَدِيثٌ آخَرُ : عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ ، عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَأَخَّرَهُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ " .

غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ بُرَيْدَةَ نَحْوُهُ .

حَدِيثٌ آخَرُ : عَنْ أَبِي الْيَسَرِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ ، عَنْ رِبْعِيٍّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو الْيَسَرِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ " .

وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، قَالَ : خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي نَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يَهْلَكُوا ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيَنَا أَبَا الْيَسَرِ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ مَعَهُ ضِمَامَةٌ مِنْ صُحُفٍ ، وَعَلَى أَبِي الْيَسَرِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيٌّ ، وَعَلَى غُلَامِهِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيٌّ فَقَالَ لَهُ أَبِي : يَا عَمِّ ، إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِكَ سَفْعَةً مِنْ غَضَبٍ ؟ قَالَ أَجَلْ ، كَانَ لِي عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْحَرَامِيِّ مَالٌ ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ فَسَلَّمْتُ ، فَقُلْتُ : أَثَمَّ هُوَ ؟ قَالُوا : لَا فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ جَفْرٌ فَقُلْتُ : أَيْنَ أَبُوكَ ؟ فَقَالَ : سَمِعَ صَوْتَكَ فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي . فَقُلْتُ : اخْرُجْ إِلَيَّ فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ ؟ فَخَرَجَ ، فَقُلْتُ : مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنِ اخْتَبَأْتَ مِنِّي ؟ قَالَ : أَنَا وَاللَّهِ أُحَدِّثُكَ ثُمَّ لَا أَكْذِبُكَ ; خَشِيْتُ وَاللَّهِ أَنْ أُحَدِّثَكَ فَأَكْذِبَكَ ، وَأَنْ أَعِدَكَ فَأُخْلِفَكَ ، وَكُنْتَ [ ص: 720 ] صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكُنْتُ - وَاللَّهِ - مُعْسِرًا قَالَ : قُلْتُ : آللَّهِ ؟ قَالَ : قُلْتُ : آللَّهِ ، قَالَ : اللَّهِ . قُلْتُ : آللَّهِ ؟ قَالَ : اللَّهِ . قَالَ : فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ ، ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِنِي ، وَإِلَّا فَأَنْتَ فِي حَلٍّ ، فَأَشْهَدُ بَصَرَ عَيْنَيَّ وَوَضْعَ أُصْبُعَيْهِ عَلَى عَيْنَيْهِ وَسَمِعَ أُذُنَيَّ هَاتَيْنِ ، وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَشَارَ إِلَى مَنَاطِ قَلْبِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ : " مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا ، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ " . وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ .

حَدِيثٌ آخَرُ : عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ [ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ ] حَدَّثَنِي أَبُو يَحْيَى الْبَزَّازُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرِ بْنِ سَلْمٍ الْكُوفِيُّ ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ الْأَنْصَارِيُّ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زِيَادٍ الْقُرَشِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ مِحْجَنٍ مَوْلَى عُثْمَانَ ، عَنْ عُثْمَانَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : " أَظَلَّ اللَّهُ عَيْنًا فِي ظِلِّهِ ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا ، أَوْ تَرَكَ لِغَارِمٍ " .

حَدِيثٌ آخَرُ : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ ، حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ جَعْوَنَةَ السُّلَمِيُّ الْخُرَاسَانِيُّ ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ ، وَهُوَ يَقُولُ بِيَدِهِ هَكَذَا وَأَوْمَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ : " مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ ، وَقَاهُ اللَّهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ ، أَلَا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ثَلَاثًا ، أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُقِيَ الْفِتَنَ ، وَمَا مِنْ جَرْعَةٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ ، مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ لِلَّهِ إِلَّا مَلَأَ اللَّهُ جَوْفَهُ إِيمَانًا " تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ .

طَرِيقٌ أُخْرَى : قَالَ الطَّبَرَانِيُّ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبُورَانِيُّ قَاضِي الْحَدِيَثَةِ مِنْ دِيَارِ رَبِيعَةَ ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الصُّدَائِيُّ ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ الْجَارُودِ ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الْمُتَّئِدِ خَالُ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا إِلَى مَيْسَرَتِهِ أَنْظَرَهُ اللَّهُ بِذَنْبِهِ إِلَى تَوْبَتِهِ " .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى يَعِظُ عِبَادَهُ وَيُذَكِّرُهُمْ زَوَالَ الدُّنْيَا وَفَنَاءَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا ، وَإِتْيَانَ الْآخِرَةِ وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِ تَعَالَى وَمُحَاسَبَتُهُ تَعَالَى خَلْقَهُ عَلَى مَا عَمِلُوا ، وَمُجَازَاتُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا كَسَبُوا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ ، وَيُحَذِّرُهُمْ عُقُوبَتُهُ ، فَقَالَ : ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ )

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، فَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ : حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، قَالَ : آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) وَعَاشَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ تِسْعَ لَيَالٍ ، ثُمَّ مَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ، لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ .[ ص: 721 ]

وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْمَسْعُودِيِّ ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ : ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ )

وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ ، مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : آخَرُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ : ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) .

وَكَذَا رَوَاهُ الضَّحَّاكُ ، وَالْعَوْفِيُّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَرَوَى الثَّوْرِيُّ ، عَنِ الْكَلْبِيِّ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : آخِرُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ : ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ) فَكَانَ بَيْنَ نُزُولِهَا [ وَبَيْنَ ] مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا .

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ : ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ) الْآيَةَ .

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : يَقُولُونَ : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاشَ بَعْدَهَا تِسْعَ لَيَالٍ ، وَبُدِئَ يَوْمُ السَّبْتَ وَمَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ . وَرَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : آخِرُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ : ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) .



( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 282 )  


هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَطْوَلُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ :

حَدَّثَنَا يُونُسُ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ : أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَحْدَثَ الْقُرْآنِ بِالْعَرْشِ آيَةُ الدَّيْنِ .[ ص: 722 ]

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا عَفَّانُ ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الدَّيْنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ ، مَسَحَ ظَهْرَهُ فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَا هُوَ ذَارِئٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَجَعَلَ يَعْرِضُ ذُرِّيَّتَهُ عَلَيْهِ ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يَزْهَرُ ، فَقَالَ : أَيْ رَبِّ ، مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هُوَ ابْنُكَ دَاوُدُ . قَالَ : أَيْ رَبِّ ، كَمْ عُمُرُهُ ؟ قَالَ : سِتُّونَ عَامًا ، قَالَ : رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ . قَالَ : لَا إِلَّا أَنْ أَزِيدَهُ مِنْ عُمُرِكَ . وَكَانَ عُمُرُ آدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ ، فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ عَامًا ، فَكَتَبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ ، فَلَمَّا احْتُضِرَ آدَمُ وَأَتَتْهُ الْمَلَائِكَةُ قَالَ : إِنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ عَامًا ، فَقِيلَ لَهُ : إِنَّكَ قَدْ وَهَبْتَهَا لِابْنِكَ دَاوُدَ . قَالَ : مَا فَعَلْتُ . فَأَبْرَزَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْكِتَابَ ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ "

وَحَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، فَذَكَرَهُ ، وَزَادَ فِيهِ : " فَأَتَمَّهَا اللَّهُ لِدَاوُدَ مِائَةً ، وَأَتَمَّهَا لِآدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ " .

وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ حَبِيبٍ ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ [ بِهِ ] .

هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا ، وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ فِي أَحَادِيثِهِ نَكَارَةٌ . وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِنَحْوِهِ ، مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَمِنْ رِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَمِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ .

فَقَوْلُهُ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) هَذَا إِرْشَادٌ مِنْهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا تَعَامَلُوا بِمُعَامَلَاتٍ مُؤَجَّلَةٍ أَنْ يَكْتُبُوهَا ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَحْفَظَ لِمِقْدَارِهَا وَمِيقَاتِهَا ، وَأَضْبُطَ لِلشَّاهِدِ فِيهَا ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا فِي آخِرِ الْآيَةِ حَيْثُ قَالَ : ( ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا 

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) قَالَ : أُنْزِلَتْ فِي السَّلَمِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ .

وَقَالَ قَتَادَةُ ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ الْأَعْرَجِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّهُ وَأَذِنَ فِيهِ ، ثُمَّ قَرَأَ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .

وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ " .[ ص: 723 ]

وَقَوْلُهُ : ( فَاكْتُبُوهُ ) أَمْرٌ مِنْهُ تَعَالَى بِالْكِتَابَةِ [ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ] لِلتَّوْثِقَةِ وَالْحِفْظِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ " فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ ؟ فَالْجَوَابُ : أَنَّ الدَّيْنَ مِنْ حَيْثُ هُوَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى كِتَابَةٍ أَصْلًا ; لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ قَدْ سَهَّلَ اللَّهُ وَيَسَّرَ حِفْظَهُ عَلَى النَّاسِ ، وَالسُّنَنُ أَيْضًا مَحْفُوظَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِكِتَابَتِهِ إِنَّمَا هُوَ أَشْيَاءُ جُزْئِيَّةٌ تَقَعُ بَيْنَ النَّاسِ ، فَأُمِرُوا أَمْرَ إِرْشَادٍ لَا أَمْرَ إِيجَابٍ ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ .

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : مَنِ ادَّانَ فَلْيَكْتُبْ ، وَمَنِ ابْتَاعَ فَلْيُشْهِدْ .

وَقَالَ قَتَادَةُ : ذَكَرَ لَنَا أَنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ الْمَرْعَشِيَّ ، كَانَ رَجُلًا صَحِبَ كَعْبًا ، فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ : هَلْ تَعْلَمُونَ مَظْلُومًا دَعَا رَبَّهُ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ ؟ فَقَالُوا : وَكَيْفَ [ يَكُونُ ] ذَلِكَ ؟ قَالَ : رَجُلٌ بَاعَ بَيْعًا إِلَى أَجَلٍ فَلَمْ يُشْهِدْ وَلَمْ يَكْتُبْ ، فَلَمَّا حَلَّ مَالُهُ جَحَدَهُ صَاحِبُهُ ، فَدَعَا رَبَّهُ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ عَصَى رَبَّهُ .

وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ ، وَابْنُ زَيْدٍ ، وَغَيْرُهُمْ : كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ : ( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ )

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ " أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ ، فَقَالَ : ائْتِنِي بِشُهَدَاءَ أُشْهِدُهُمْ . قَالَ : كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا . قَالَ : ائْتِنِي بِكَفِيلٍ . قَالَ : كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا . قَالَ : صَدَقْتَ . فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَقَدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا ، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مَعَهَا إِلَى صَاحِبِهَا ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا ، ثُمَّ أَتَى بِهَا الْبَحْرَ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنِّي اسْتَسْلَفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ ، فَسَأَلَنِي كَفِيلًا فَقُلْتُ : كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا . فَرَضِيَ بِذَلِكَ ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا ، فَقُلْتُ : كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا . فَرَضِيَ بِذَلِكَ ، وَإِنِّي قَدْ جَهِدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ بِهَا إِلَيْهِ بِالَّذِي أَعْطَانِي فَلَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا ، وَإِنِّي اسْتَوْدَعْتُكَهَا . فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَطْلُبُ مَرْكَبًا إِلَى بَلَدِهِ ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا تَجِيئُهُ بِمَالِهِ ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا كَسَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ ، ثُمَّ قَدِمَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ تَسَلَّفَ مِنْهُ ، فَأَتَاهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَقَالَ : وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ . قَالَ : هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ ؟ قَالَ : أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ هَذَا الَّذِي جِئْتُ فِيهِ ؟ قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ بِهِ فِي الْخَشَبَةِ ، فَانْصَرِفْ بِأَلْفِكَ رَاشِدًا " .

وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ مُعَلَّقًا بِصِيغَةِ[ ص: 724 ] الْجَزْمِ ، فَقَالَ : وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، فَذَكَرَهُ . وَيُقَالُ : إِنَّهُ رَوَاهُ فِي بَعْضِهَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ ، عَنْهُ .

وَقَوْلُهُ : ( لِيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) أَيْ : بِالْقِسْطِ وَالْحَقِّ ، وَلَا يَجُرْ فِي كِتَابَتِهِ عَلَى أَحَدٍ ، وَلَا يَكْتُبْ إِلَّا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ .

وَقَوْلُهُ : ( وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ) أَيْ : وَلَا يَمْتَنِعْ مَنْ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ إِذَا سُئِلَ أَنْ يَكْتُبَ لِلنَّاسِ ، وَلَا ضَرُورَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، فَكَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ ، فَلْيَتَصَدَّقْ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَلْيَكْتُبْ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " إِنَّ مِنَ الصَّدَقَةِ أَنْ تُعِينَ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعَ لِأَخْرَقَ " . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : " مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ " . وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ : وَاجِبٌ عَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ .

وَقَوْلُهُ : ( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ) أَيْ : وَلْيُمْلِلِ الْمَدِينُ عَلَى الْكَاتِبِ مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ ، وَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي ذَلِكَ ، ( وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ) أَيْ : لَا يَكْتُمُ مِنْهُ شَيْئًا ، ( فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا ) مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِتَبْذِيرٍ وَنَحْوِهِ ، ( أَوْ ضَعِيفًا ) أَيْ : صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا ( أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ ) إِمَّا لِعَيٍّ أَوْ جَهْلٍ بِمَوْضِعِ صَوَابِ ذَلِكَ مِنْ خَطَئِهِ . ( فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ )

وَقَوْلُهُ ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ) أَمْرٌ بِالْإِشْهَادِ مَعَ الْكِتَابَةِ لِزِيَادَةِ التَّوْثِقَةِ ، ( فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ) وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَمْوَالِ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ ، وَإِنَّمَا أُقِيمَتِ الْمَرْأَتَانِ مَقَامَ الرَّجُلِ لِنُقْصَانِ عَقْلِ الْمَرْأَةِ ، كَمَا قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ، تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ " ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ : وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ ؟ قَالَ : " تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ " . قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ ؟ قَالَ : " أَمَّا نُقْصَانُ عَقْلِهَا فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ ، فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِي لَا تُصَلِّي ، وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ ، فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ " .

وَقَوْلُهُ : ( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الشُّهُودِ ، وَهَذَا مُقَيَّدٌ ، حَكَمَ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى كُلِّ مُطْلَقٍ فِي الْقُرْآنِ ، مِنَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطٍ . وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ رَدَّ الْمَسْتُورَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ عَدْلًا مُرْضِيًا .

وَقَوْلُهُ : ( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا ) يَعْنِي : الْمَرْأَتَيْنِ إِذَا نَسِيَتِ الشَّهَادَةَ ( فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ) أَيْ : يَحْصُلُ لَهَا ذِكْرَى بِمَا وَقَعَ بِهِ الْإِشْهَادُ ، وَلِهَذَا قَرَأَ آخَرُونَ : " فَتُذَكِّرَ " بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التِّذْكَارِ . وَمَنْ قَالَ :[ ص: 725 ] إِنْ شَهَادَتَهَا مَعَهَا تَجْعَلُهَا كَشَهَادَةِ ذَكَرٍ فَقَدْ أَبْعَدَ ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَوْلُهُ : ( وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ) قِيلَ : مَعْنَاهُ : إِذَا دُعُوا لِلتَّحَمُّلِ فَعَلَيْهِمُ الْإِجَابَةُ ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : ( وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ) وَمِنْ هَاهُنَا اسْتُفِيدَ أَنَّ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ .

وَقِيلَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : ( وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ) لِلْأَدَاءِ ، لِحَقِيقَةِ قَوْلِهِ : ( الشُّهَدَاءُ ) وَالشَّاهِدُ حَقِيقَةً فِيمَنْ تَحَمَّلَ ، فَإِذَا دُعِيَ لِأَدَائِهَا فَعَلَيْهِ الْإِجَابَةُ إِذَا تَعَيَّنَتْ وَإِلَّا فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو مِجْلَزٍ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ : إِذَا دُعِيتَ لِتَشْهَدَ فَأَنْتِ بِالْخِيَارِ ، وَإِذَا شَهِدْتَ فَدُعِيتَ فَأَجِبْ .

وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالسُّنَنِ ، مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا " .

فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فِي الصَّحِيحَيْنِ : " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ الشُّهَدَاءِ ؟ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا " ، وَكَذَا قَوْلُهُ : " ثُمَّ يَأْتِي قَوْمٌ تَسْبِقُ أَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ ، وَتَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ " . وَفِي رِوَايَةٍ : " ثُمَّ يَأْتِي قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ " . فَهَؤُلَاءِ شُهُودُ الزُّورِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : أَنَّهَا تَعُمُّ الْحَالَيْنِ : التَّحَمُّلَ وَالْأَدَاءَ .

وَقَوْلُهُ : ( وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ) هَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِرْشَادِ ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِكِتَابَةِ الْحَقِّ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا ، فَقَالَ : ( وَلَا تَسْأَمُوا ) أَيْ : لَا تَمَلُّوا أَنْ تَكْتُبُوا الْحَقَّ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ مِنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ) إِلَى أَجَلِهِ )

وَقَوْلُهُ ( ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ) أَيْ : هَذَا الَّذِي أَمَرْنَاكُمْ بِهِ مِنَ الْكِتَابَةِ لِلْحَقِّ إِذَا كَانَ مُؤَجَّلًا هُوَ ( أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ) أَيْ : أَعْدَلُ ( وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ ) أَيْ : أَثْبَتُ لِلشَّاهِدِ إِذَا وَضَعَ خَطَّهُ ثُمَّ رَآهُ تَذَكَّرَ بِهِ الشَّهَادَةَ ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكْتُبْهُ أَنْ يَنْسَاهُ ، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ غَالِبًا ( وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ) وَأَقْرَبُ إِلَى عَدَمِ الرِّيبَةِ ، بَلْ تَرْجِعُونَ عِنْدَ التَّنَازُعِ إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبْتُمُوهُ ، فَيَفْصِلُ بَيْنَكُمْ بِلَا رِيبَةٍ .

وَقَوْلُهُ : ( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ) أَيْ : إِذَا كَانَ الْبَيْعُ بِالْحَاضِرِ يَدًا بِيَدٍ ، فَلَا بَأْسَ بِعَدَمِ الْكِتَابَةِ لِانْتِفَاءِ الْمَحْذُورِ فِي تَرْكِهَا .

فَأَمَّا الْإِشْهَادُ عَلَى الْبَيْعِ ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : ( وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ) قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ ، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ [ ص: 726 ] فِي قَوْلِ اللَّهِ : ( وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ) يَعْنِي : أَشْهَدُوا عَلَى حَقِّكُمْ إِذَا كَانَ فِيهِ أَجَلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، فَأَشْهَدُوا عَلَى حَقِّكُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ . قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَالضَّحَّاكِ ، نَحْوَ ذَلِكَ .

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ : هَذَا الْأَمْرُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ : ( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ )

وَهَذَا الْأَمْرُ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى الْإِرْشَادِ وَالنَّدْبِ ، لَا عَلَى الْوُجُوبِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ ، وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ :

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، حَدَّثَنِي عُمَارَةُ بْنُ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيُّ ، أَنَّ عَمَّهُ حَدَّثَهُ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ ، فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقْضِيَهُ ثَمَنَ فَرَسِهِ ، فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبْطَأَ الْأَعْرَابِيُّ ، فَطَفِقَ رِجَالٌ يَعْتَرِضُونَ الْأَعْرَابِيَّ فَيُسَاوِمُونَهُ بِالْفَرَسِ ، وَلَا يَشْعُرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعَهُ ، حَتَّى زَادَ بَعْضُهُمُ الْأَعْرَابِيَّ فِي السَّوْمِ عَلَى ثَمَنِ الْفَرَسِ الَّذِي ابْتَاعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَادَى الْأَعْرَابِيُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنْ كُنْتَ مُبْتَاعًا هَذَا الْفَرَسَ فَابْتَعْهُ ، وَإِلَّا بِعْتُهُ ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ نِدَاءَ الْأَعْرَابِيِّ ، قَالَ : " أَوَلَيْسَ قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ ؟ " قَالَ الْأَعْرَابِيُّ : لَا وَاللَّهِ مَا بِعْتُكَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " بَلْ قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ " . فَطَفِقَ النَّاسُ يَلُوذُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَعْرَابِيِّ وَهُمَا يَتَرَاجَعَانِ ، فَطَفِقَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ : هَلُمَّ شَهِيدًا يَشْهَدُ أَنِّي بَايَعْتُكَ . فَمَنْ جَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ : وَيْلَكَ ! إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ إِلَّا حَقًّا . حَتَّى جَاءَ خُزَيْمَةُ ، فَاسْتَمَعَ لِمُرَاجَعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُرَاجَعَةِ الْأَعْرَابِيِّ يَقُولُ هَلُمَّ شَهِيدًا يَشْهَدُ أَنِّي بَايَعْتُكَ . قَالَ خُزَيْمَةُ : أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَايَعْتَهُ . فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ : " بِمَ تَشْهَدُ ؟ " فَقَالَ : بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ .

وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ شُعَيْبٍ ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الزَّبِيْرِيِّ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ ، بِهِ نَحْوَهُ .

وَلَكِنَّ الِاحْتِيَاطَ هُوَ الْإِشْهَادُ ، لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامَانِ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيِّ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ فِرَاسٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ ، عَنْ أَبِي مُوسَى ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ اللَّهَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ : رَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا ، وَرَجُلٌ دَفَعَ مَالَ يَتِيمٍ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ ، وَرَجُلٌ أَقْرَضَ رَجُلًا مَالًا فَلَمْ يُشْهِدْ " .

ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، قَالَ : وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ، لِتَوْقِيفِ أَصْحَابِ شُعْبَةَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَبِي مُوسَى ، وَإِنَّمَا أَجْمَعُوا عَلَى سَنَدِ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ : " ثَلَاثَةٌ يُؤْتُونَ أَجْرَهَمْ مَرَّتَيْنِ " .

وَقَوْلُهُ : ( وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ) قِيلَ : مَعْنَاهُ : لَا يُضَارَّ الْكَاتِبُ وَلَا الشَّاهِدُ ، فَيَكْتُبُ هَذَا خِلَافَ مَا يُمْلَى ، وَيَشْهَدُ هَذَا بِخِلَافِ مَا سَمِعَ أَوْ يَكْتُمُهَا بِالْكُلِّيَّةِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا .

وَقِيلَ : مَعْنَاهُ : لَا يَضُرُّ بِهِمَا ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ[ ص: 727 ]

حَدَّثَنَا أُسَيْدُ بْنُ عَاصِمٍ ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ يَعْنِي ابْنَ حَفْصٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ ، عَنْ مِقْسَمٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : ( وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ) قَالَ : يَأْتِي الرَّجُلُ فَيَدْعُوهُمَا إِلَى الْكِتَابِ وَالشَّهَادَةِ ، فَيَقُولَانِ : إِنَّا عَلَى حَاجَةٍ فَيَقُولُ : إِنَّكُمَا قَدْ أُمِرْتُمَا أَنْ تُجِيبَا . فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَارَّهُمَا .

ثُمَّ قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَعَطِيَّةَ ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، وَالسُّدِّيِّ ، نَحْوُ ذَلِكَ .

وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ) أَيْ : إِنْ خَالَفْتُمْ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ ، وَفَعَلْتُمْ مَا نَهِيتُمْ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ فِسْقٌ كَائِنٌ بِكُمْ ، أَيْ : لَازِمٌ لَكُمْ لَا تَحِيدُونَ عَنْهُ وَلَا تَنْفَكُّونَ عَنْهُ .

وَقَوْلُهُ : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) أَيْ : خَافُوهُ وَرَاقِبُوهُ ، وَاتَّبِعُوا أَمْرَهُ وَاتْرُكُوا زَجْرَهُ ( وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ) كَقَوْلِهِ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ) [ الْأَنْفَالِ : 29 ] ، وَكَقَوْلِهِ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ) [ الْحَدِيدِ : 28 ] .

وَقَوْلُهُ : ( وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) أَيْ : هُوَ عَالِمٌ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَمَصَالِحِهَا وَعَوَاقِبِهَا ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ ، بَلْ عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ .

182

( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( 283)

يَقُولُ تَعَالَى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ ) أَيْ : مُسَافِرِينَ وَتَدَايَنْتُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى ( وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا ) يَكْتُبُ لَكُمْ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَوْ وَجَدُوهُ وَلَمْ يَجِدْ قِرْطَاسًا أَوْ دَوَاةً أَوْ قَلَمًا فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ ، أَيْ : فَلْيَكُنْ بَدَلَ الْكِتَابَةِ رِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فِي يَدِ صَاحِبِ الْحَقِّ .

وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ : ( فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ) عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَا يُلْزِمُ إِلَّا بِالْقَبْضِ ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ ، وَاسْتَدَلَّ بِهَا آخَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَقْبُوضًا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِأَحْمَدَ ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ .

وَاسْتَدَلَّ آخَرُونَ مِنَ السَّلَفِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّهْنُ مَشْرُوعًا إِلَّا فِي السَّفَرِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ .

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ عَلَى ثَلَاثِينَ وَسْقًا مِنْ شَعِيرٍ ، رَهَنَهَا قُوتًا لِأَهْلِهِ . وَفِي رِوَايَةٍ : مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ . وَفِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ : عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ . وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي كِتَابِ " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ " ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ ، وَبِهِ [ ص: 728 ] الْمُسْتَعَانُ .

وَقَوْلُهُ : ( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ) رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : هَذِهِ نَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا .

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : إِذَا ائْتَمَنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلَا بَأْسَ أَلَّا تَكْتُبُوا أَوْ لَا تُشْهِدُوا .

وَقَوْلُهُ : ( وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ) يُعْنَى : الْمُؤْتَمَنُ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ ، مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ سَمُرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ " .

وَقَوْلُهُ : ( وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ) أَيْ : لَا تُخْفُوهَا وَتَغُلُّوهَا وَلَا تُظْهِرُوهَا . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ : شَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ، وَكِتْمَانُهَا كَذَلِكَ . وَلِهَذَا قَالَ : ( وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) قَالَ السُّدِّيُّ : يَعْنِي : فَاجْرٌ قَلْبُهُ ، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ ) [ الْمَائِدَةِ : 106 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) [ النِّسَاءِ : 135 ] ، وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا : ( وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ )

183

( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 284 ) )

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ لَهُ مُلْكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ ، وَأَنَّهُ الْمُطَّلِعُ عَلَى مَا فِيهِنَّ ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ الظَّوَاهِرُ وَلَا السَّرَائِرُ وَالضَّمَائِرُ ، وَإِنْ دَقَّتْ وَخَفِيَتْ ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَيُحَاسِبُ عِبَادَهُ عَلَى مَا فَعَلُوهُ وَمَا أَخْفَوْهُ فِي صُدُورِهِمْ كَمَا قَالَ : ( قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ آلِ عِمْرَانَ : 29 ] ، وَقَالَ : ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) [ طَهَ : 7 ] ، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا ، وَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ بِمَزِيدٍ عَلَى الْعِلْمِ ، وَهُوَ : الْمُحَاسَبَةُ عَلَى ذَلِكَ ، وَلِهَذَا لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَخَافُوا مِنْهَا ، وَمِنْ مُحَاسَبَةِ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى جَلِيلِ الْأَعْمَالِ وَحَقِيرِهَا ، وَهَذَا مِنْ شِدَّةِ إِيمَانِهِمْ وَإِيقَانِهِمْ .

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا عَفَّانُ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ[ ص: 729 ] يَعْنِي الْعَلَاءَ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ جَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ ، وَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ : الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ ، وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ؟ بَلْ قُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ، غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ " . فَلَمَّا أَقَرَّ بِهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ ، أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَثَرِهَا : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ فَأَنْزَلَ : ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبْتُ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبْتُ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) إِلَى آخِرِهِ .

وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مُنْفَرِدًا بِهِ ، مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ ، عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ ، عَنِ الْعَلَاءِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ ، وَلَفْظُهُ : " فَلَمَّا فَعَلُوا [ ذَلِكَ ] نَسَخَهَا اللَّهُ ، فَأَنْزَلَ : ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) قَالَ : نَعَمْ ، ( رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ) قَالَ : نَعَمْ ، ( رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) قَالَ : نَعَمْ ، ( وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) قَالَ : نَعَمْ .

حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ : قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ آدَمَ بْنِ سُلَيْمَانَ ، سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) قَالَ : دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ مِنْ شَيْءٍ ، قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا " . فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ . ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) إِلَى قَوْلِهِ : ( فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ )

وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، وَأَبِي كُرَيْبٍ ، وَإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ وَكِيعٍ ، بِهِ وَزَادَ : ( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) قَالَ : قَدْ فَعَلْتُ ( رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ) قَالَ : قَدْ فَعَلْتُ ، ( رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) قَالَ : قَدْ فَعَلْتُ ( وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا [ فَانْصُرْنَا ] ) قَالَ : قَدْ فَعَلْتُ .

طَرِيقٌ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ : يَا أَبَا عَبَّاسٍ ، كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَقَرَأَ[ ص: 730 ] هَذِهِ الْآيَةَ فَبَكَى . قَالَ : أَيَّةُ آيَةٍ ؟ قُلْتُ : ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ حِينَ أُنْزِلَتْ غَمَّتْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَمًّا شَدِيدًا ، وَغَاظَتْهُمْ غَيْظًا شَدِيدًا ، يَعْنِي ، وَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلَكْنَا ، إِنْ كُنَّا نُؤَاخَذُ بِمَا تَكَلَّمْنَا وَبِمَا نَعْمَلُ ، فَأَمَّا قُلُوبُنَا فَلَيْسَتْ بِأَيْدِينَا ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا " . قَالُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا . قَالَ : فَنَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ) إِلَى ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) فَتَجَوَّزَ لَهُمْ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَأُخِذُوا بِالْأَعْمَالِ .

طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهُ : قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي يُونُسُ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَرْجَانَةَ ، سَمِعَهُ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : ( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ ) الْآيَةَ . فَقَالَ : وَاللَّهِ لَئِنْ وَاخَذَنَا اللَّهُ بِهَذَا لَنَهْلَكَنَّ ، ثُمَّ بَكَى ابْنُ عُمَرَ حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ . قَالَ ابْنُ مَرْجَانَةَ : فَقُمْتُ حَتَّى أَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ ، فَذَكَرْتُ لَهُ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ ، وَمَا فَعَلَ حِينَ تَلَاهَا ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ : يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ . لَعَمْرِي لَقَدْ وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا حِينَ أُنْزِلَتْ مِثْلَ مَا وَجَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَهَا : ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَكَانَتْ هَذِهِ الْوَسْوَسَةُ مِمَّا لَا طَاقَةَ لِلْمُسْلِمِينَ بِهَا ، وَصَارَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ قَضَى اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، أَنَّ لِلنَّفْسِ مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ .

طَرِيقٌ أُخْرَى : قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمٍ : أَنَّ أَبَاهُ قَرَأَ : ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ ، فَبَلَغَ صَنِيعُهُ ابْنَ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ : يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، لَقَدْ صَنَعَ كَمَا صَنَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُنْزِلَتْ ، فَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا : ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ) .

فَهَذِهِ طُرُقٌ صَحِيحَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

قَالَ الْبُخَارِيُّ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ ، عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَبُهُ ابْنَ عُمَرَ ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ ) قَالَ : نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا .

وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَقَتَادَةَ : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالَّتِي بَعْدَهَا .

وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ فِي كُتُبِهِمُ السِّتَّةِ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ، مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ [ ص: 731 ] تَعْمَلْ " .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَالَ اللَّهُ : إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً ، وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا " . لَفْظُ مُسْلِمٍ وَهُوَ فِي أَفْرَادِهِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ ، عَنِ الْعَلَاءِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " قَالَ اللَّهُ : إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَتُهَا لَهُ حَسَنَةً ، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ أَكْتُبْهَا عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً " .

وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ : هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَالَ اللَّهُ : إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ ، فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ ، مَا لَمْ يَعْمَلْهَا ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا " . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ : رَبِّ ، وَإِنَّ عَبْدَكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ فَقَالَ : ارْقُبُوهُ ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا ، وَإِنْ تَرْكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً ، وَإِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ " . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا أَحْسَنَ أَحَدٌ إِسْلَامَهُ ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ 

تَفَرَّدَ بِهِ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهَذَا السِّيَاقِ وَاللَّفْظِ وَبَعْضُهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ .

وَقَالَ مُسْلِمٌ أَيْضًا : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ ، عَنْ هِشَامٍ ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً ، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ [ عَشْرًا ] إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ ، وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ " . تَفَرَّدَ بِهِ مُسْلِمٌ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ .

[ وَقَالَ مُسْلِمٌ ] حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ ، عَنِ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ . وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ

[ ص: 732 ] يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً " .

ثُمَّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ ، عَنِ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ بِمَعْنَى حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِثِ وَزَادَ : " وَمَحَاهَا اللَّهُ ، وَلَا يَهْلَكُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا هَالِكٌ " .

وَفِي حَدِيثِ سُهَيْلٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَسَأَلُوهُ : إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ . قَالَ : " وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ ؟ " قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : " ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ " .

لَفْظُ مُسْلِمٍ وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِهِ . وَرَوَى مُسْلِمٌ [ أَيْضًا ] مِنْ حَدِيثِ مُغِيرَةَ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَلْقَمَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوَسْوَسَةِ ، قَالَ : " تِلْكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ " . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) فَإِنَّهَا لَمْ تُنْسَخْ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ إِذَا جَمَعَ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ : إِنِّي أُخْبِرُكُمْ بِمَا أَخْفَيْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ ، مِمَّا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مَلَائِكَتِي ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيُخْبِرُهُمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ مَا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : ( يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) يَقُولُ : يُخْبِرُكُمْ ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا أَخْفَوْا مِنَ التَّكْذِيبِ وَهُوَ قَوْلُهُ : ( فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ) وَهُوَ قَوْلُهُ : ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) [ الْبَقَرَةِ : 225 ] أَيْ : مِنَ الشَّكِّ وَالنِّفَاقِ . وَقَدْ رَوَى الْعَوْفِيُّ وَالضَّحَّاكُ عَنْهُ قَرِيبًا مِنْ هَذَا .

وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ ، نَحْوَهُ . وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : هِيَ مُحْكَمَةٌ لَمْ تُنْسَخْ . وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ ذَلِكَ ، وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْمُحَاسِبَةِ الْمُعَاقِبَةَ ، وَأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يُحَاسِبُ وَيَغْفِرُ ، وَقَدْ يُحَاسِبُ وَيُعَاقِبُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ ، قَائِلًا : حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ ، عَنْ سَعِيدٍ وَهِشَامٍ ، ( ح ) وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ ، قَالَا جَمِيعًا فِي حَدِيثِهِمَا : عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ ، قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ نَطُوفُ بِالْبَيْتِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَهُوَ يَطُوفُ ، إِذْ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا ابْنَ عُمَرَ ، مَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي النَّجْوَى ؟ فَقَالَ : سَمِعْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " يَدْنُو الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ فَيَقُولُ : هَلْ تَعْرِفُ كَذَا ؟ فَيَقُولُ : رَبِّ أَعْرِفُ مَرَّتَيْنِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ قَالَ : فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ " . قَالَ : " فَيُعْطَى صَحِيفَةُ حَسَنَاتِهِ أَوْ كِتَابُهُ بِيَمِينِهِ ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ : ( هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) [ هُودٍ : 18 ][ ص: 733 ]

وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ ، عَنْ قَتَادَةَ ، بِهِ .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أُمَيَّةَ قَالَتْ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ : ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) فَقَالَتْ : مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ مُنْذُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَقَالَ : " هَذِهِ مُبَايَعَةُ اللَّهِ الْعَبْدَ ، وَمَا يُصِيبُهُ مِنَ الْحُمَّى ، وَالنَّكْبَةِ ، وَالْبِضَاعَةُ يَضَعُهَا فِي يَدِ كُمِّهِ ، فَيَفْتَقِدُهَا فَيَفْزَعُ لَهَا ، ثُمَّ يَجِدُهَا فِي ضِبْنِهِ ، حَتَّى إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِيَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ كَمَا يَخْرُجُ التِّبْرُ الْأَحْمَرُ [ مِنَ الْكِيرِ ] " .

وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، بِهِ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ .

قُلْتُ : وَشَيْخُهُ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ ضَعِيفٌ ، يَغْرُبُ فِي رِوَايَاتِهِ وَهُوَ يَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ امْرَأَةِ أَبِيهِ : أُمِّ مُحَمَّدٍ أُمَيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، وَلَيْسَ لَهَا عَنْهَا فِي الْكُتُبِ سِوَاهُ .
184


 ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( 285 ) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( 286 ) 


ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي فَضْلِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمَا 
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : قَالَ الْبُخَارِيُّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ سُلَيْمَانَ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ " ، وَحَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ " .

وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ الْأَعْمَشِ ، بِإِسْنَادِهِ ، مِثْلِهِ . وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْهُ ، بِهِ . وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا [ ص: 734 ] مَسْعُودٍ ، فَحَدَّثَنِي بِهِ
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ ، عَنْ عَاصِمٍ ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ ، عَنْ عَلْقَمَةَ ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَتِهِ كَفَتَاهُ " .

الْحَدِيثُ الثَّانِي : قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ رِبْعِيٍّ ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ ، لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي " .

وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ ، مِنْ حَدِيثِ الْأَشْجَعِيِّ ، عَنِ الثَّوْرِيِّ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ رِبْعِيٍّ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ظَبْيَانَ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ " .

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : قَالَ مُسْلِمٌ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ ( ح ) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ جَمِيعًا ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ طَلْحَةَ ، عَنْ مُرَّةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا ، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا ، قَالَ : ( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ) [ النَّجْمِ : 16 ] ، قَالَ : فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ . قَالَ : وَأُعْطِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا : أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا الْمُقْحَمَاتُ .

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : قَالَ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الرَّازِيُّ ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزْنِيِّ ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اقْرَأِ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنِّي أُعْطِيتُهُمَا مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ " . هَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ فِي كُتُبِهِمْ .

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُسَدَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، عَنْ رَبْعِيٍّ ، عَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ ، أُوتِيْتُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ بَيْتِ كَنْزٍ تَحْتَ [ ص: 735 ] الْعَرْشِ ، لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ قَبْلِي ، وَلَا يُعْطَاهَا أَحَدٌ بَعْدِي " .

ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدِيٍّ ، عَنْ رِبْعِيٍّ ، عَنْ حُذَيْفَةَ ، بِنَحْوِهِ .

الْحَدِيثُ السَّادِسُ : قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ نَافِعٍ ، أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ بَزِيعٍ ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنِ الْحَارِثِ ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : لَا أَرَى أَحَدًا عَقِلَ الْإِسْلَامَ يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، فَإِنَّهَا كَنْزٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ .

وَرَوَاهُ وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ عَمْرٍو الْخَارِفِيِّ ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : مَا أَرَى أَحَدًا يَعْقِلُ ، بَلَغَهُ الْإِسْلَامُ ، يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، فَإِنَّهَا مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ .

الْحَدِيثُ السَّابِعُ : قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ : حَدَّثَنَا بُنْدَارٌ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَرْمِيِّ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ ، أَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، وَلَا يُقْرَأْنَ فِي دَارٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ " . ثُمَّ قَالَ : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ . وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ ، وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ .

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ : قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَدْيَنَ ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْجَهْمِ ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ ، حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ أَبِي الْحَجَّاجِ ، عَنْ سَعِيدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَأَ آخِرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ ضَحِكَ ، وَقَالَ : " إِنَّهُمَا مِنْ كَنْزِ الرَّحْمَنِ تَحْتَ الْعَرْشِ " . وَإِذَا قَرَأَ : ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) [ النِّسَاءِ : 123 ] ، ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى )[ النَّجْمِ : 3941 ] ، اسْتَرْجَعَ وَاسْتَكَانَ .

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ : قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ كُوفِيٍّ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ ، عَنْ أَبِي مَلِيحٍ ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أُعْطِيتُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ ، وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ ، وَالْمُفَصَّلَ نَافِلَةً " [ ص: 736 ]

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ : قَدْ تَقَدَّمَ فِي فَضَائِلِ الْفَاتِحَةِ ، مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ جِبْرِيلُ ; إِذْ سَمِعَ نَقِيضًا فَوْقَهُ ، فَرَفَعَ جِبْرِيلُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ ، فَقَالَ : هَذَا بَابٌ قَدْ فُتِحَ مِنَ السَّمَاءِ مَا فُتِحَ قَطُّ . قَالَ : فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ ، فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ قَدْ أُوتِيتُهُمَا ، لَمْ يُؤْتِهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ : فَاتِحَةُ الْكِتَابِ ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، لَنْ تَقْرَأَ حَرْفًا مِنْهُمَا إِلَّا أُوتِيتُهُ ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ ، وَهَذَا لَفْظُهُ .

[ الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ : قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ : حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ ، حَدَّثَنَا أَيْفَعُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكُلَاعِيُّ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : " آيَةُ الْكُرْسِيِّ : ( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) قَالَ : فَأَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تُحِبُّ أَنْ تُصِيبَكَ وَأُمَّتَكَ ؟ قَالَ : " آخِرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَلَمْ يَتْرُكْ خَيْرًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ " ] .

فَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ) إِخْبَارٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ .

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا بِشَرٌ ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ ، عَنْ قَتَادَةَ ، قَالَ : ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : " وَيَحِقُّ لَهُ أَنْ يُؤْمِنَ " .

وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ : حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ الْفَقِيهُ : حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ نَجْدَةَ الْقُرَشِيِّ ، حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى ، حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ) قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " حُقَّ لَهُ أَنْ يُؤْمِنَ " . ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ . .

وَقَوْلُهُ : ( وَالْمُؤْمِنُونَ ) عَطْفٌ عَلَى ) الرَّسُولُ ) ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْجَمِيعِ فَقَالَ : ( كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) فَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ ، فَرْدٌ صَمَدٌ ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ . وَيُصَدِّقُونَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ الْمُرْسَلِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ ، لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ، فَيُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ، بَلِ الْجَمِيعُ عِنْدَهُمْ صَادِقُونَ بَارُّونَ رَاشِدُونَ مَهْدِيُّونَ هَادُونَ إِلَى سُبُلِ الْخَيْرِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَنْسَخُ شَرِيعَةَ بَعْضٍ بِإِذْنِ اللَّهِ ، حَتَّى نُسِخَ الْجَمِيعُ بِشَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ، الَّذِي تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى شَرِيعَتِهِ ، وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ .

وَقَوْلُهُ : ( وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) أَيْ : سَمِعْنَا قَوْلَكَ يَا رَبَّنَا ، وَفَهِمْنَاهُ ، وَقُمْنَا بِهِ ، وَامْتَثَلْنَا الْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ ، ( غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ) سُؤَالٌ لِلْغَفْرِ وَالرَّحْمَةِ وَاللُّطْفِ .

قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْمَوْصِلِيُّ ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ[ ص: 737 ] عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ) إِلَى قَوْلِهِ : ( غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ) قَالَ : قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ ، ( وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) أَيْ : إِلَيْكَ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ .

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ، عَنْ بَيَانٍ ، عَنْ حَكِيمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) قَالَ جِبْرِيلُ : إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ ، فَسَلْ تُعْطَهْ . فَسَأَلَ : ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ .

وَقَوْلُهُ : ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ) أَيْ : لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا فَوْقَ طَاقَتِهِ ، وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ ، وَهَذِهِ هِيَ النَّاسِخَةُ الرَّافِعَةُ لِمَا كَانَ أَشْفَقَ مِنْهُ الصَّحَابَةُ ، فِي قَوْلِهِ : ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) أَيْ : هُوَ وَإِنْ حَاسَبَ وَسَأَلَ لَكِنْ لَا يُعَذِّبُ إِلَّا بِمَا يَمْلِكُ الشَّخْصُ دَفْعَهُ ، فَأَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ مِنْ وَسْوَسَةِ النَّفْسِ وَحَدِيثِهَا ، فَهَذَا لَا يُكَلِّفُ بِهِ الْإِنْسَانَ ، وَكَرَاهِيَةُ الْوَسْوَسَةِ السَّيِّئَةِ مِنَ الْإِيمَانِ .

وَقَوْلُهُ : ( لَهَا مَا كَسَبَتْ ) أَيْ : مِنْ خَيْرٍ ، ( وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) أَيْ : مِنْ شَرٍّ ، وَذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي تَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُرْشِدًا عِبَادَهُ إِلَى سُؤَالِهِ ، وَقَدْ تَكَفَّلَ لَهُمْ بِالْإِجَابَةِ ، كَمَا أَرْشَدَهُمْ وَعَلَّمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : ( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ [ نَسِينَا ] ) أَيْ : إِنْ تَرَكْنَا فَرْضًا عَلَى جِهَةِ النِّسْيَانِ ، أَوْ فَعَلْنَا حَرَامًا كَذَلِكَ ، ( أَوْ أَخْطَأْنَا ) أَيِ : الصَّوَابَ فِي الْعَمَلِ ، جَهْلًا مِنَّا بِوَجْهِهِ الشَّرْعِيِّ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : " قَالَ اللَّهُ : نَعَمْ " وَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ اللَّهُ : " قَدْ فَعَلْتُ " .

وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيِّ ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ ابْنُ مَاجَهْ فِي رِوَايَتِهِ : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ : عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " . وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ وَأَعَلَّهُ أَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ ، عَنْ شَهْرٍ ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَنْ ثَلَاثٍ : عَنِ الْخَطَأِ ، وَالنِّسْيَانِ ، وَالِاسْتِكْرَاهِ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْحَسَنِ ، فَقَالَ : أَجَلْ ، أَمَا تَقْرَأُ بِذَلِكَ قُرْآنًا : ( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا )[ ص: 738 ]

وَقَوْلُهُ : ( رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ) أَيْ : لَا تُكَلِّفُنَا مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ وَإِنْ أَطَقْنَاهَا ، كَمَا شَرَعْتَهُ لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَنَا مِنَ الْأَغْلَالِ وَالْآصَارِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ، الَّتِي بَعَثْتَ نَبِيَّكَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ بِوَضْعِهِ فِي شَرْعِهِ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ بِهِ ، مِنَ الدِّينِ الْحَنِيفِ السَّهْلِ السَّمْحِ .

وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " قَالَ اللَّهُ : نَعَمْ " .

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " قَالَ اللَّهُ : قَدْ فَعَلْتُ " . وَجَاءَ الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ " .

وَقَوْلُهُ : ( رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) أَيْ : مِنَ التَّكْلِيفِ وَالْمَصَائِبِ وَالْبَلَاءِ ، لَا تَبْتَلِينَا بِمَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ .

وَقَدْ قَالَ مَكْحُولٌ فِي قَوْلِهِ : ( رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) قَالَ : الْغُرْبَةُ وَالْغُلْمَةُ ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، " قَالَ اللَّهُ : نَعَمْ " وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : " قَالَ اللَّهُ : قَدْ فَعَلْتُ " .

وَقَوْلُهُ : ( وَاعْفُ عَنَّا ) أَيْ : فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مِمَّا تَعْلَمُهُ مِنْ تَقْصِيرِنَا وَزَلَلِنَا ، ( وَاغْفِرْ لَنَا ) أَيْ : فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ عِبَادِكَ ، فَلَا تُظْهِرُهُمْ عَلَى مُسَاوِينَا وَأَعْمَالِنَا الْقَبِيحَةِ ، ( وَارْحَمْنَا ) أَيْ : فِيمَا يُسْتَقْبَلُ ، فَلَا تُوقِعُنَا بِتَوْفِيقِكَ فِي ذَنْبٍ آخَرَ ، وَلِهَذَا قَالُوا : إِنَّ الْمُذْنِبَ مُحْتَاجٌ إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، وَأَنْ يَسْتُرَهُ عَنْ عِبَادِهِ فَلَا يَفْضَحُهُ بِهِ بَيْنَهُمْ ، وَأَنْ يَعْصِمَهُ فَلَا يُوقِعُهُ فِي نَظِيرِهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ : نَعَمْ . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : " قَالَ اللَّهُ : قَدْ فَعَلْتُ " .

وَقَوْلُهُ : ( أَنْتَ مَوْلَانَا ) أَيْ : أَنْتَ وَلِيُّنَا وَنَاصِرُنَا ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا ، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ ، وَعَلَيْكَ التُّكْلَانُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ لَنَا إِلَّا بِكَ ( فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) أَيِ : الَّذِينَ جَحَدُوا دِينَكَ ، وَأَنْكَرُوا وَحْدَانِيَّتَكَ ، وَرِسَالَةَ نَبِيِّكَ ، وَعَبَدُوا غَيْرَكَ ، وَأَشْرَكُوا مَعَكَ مِنْ عِبَادِكَ ، فَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ ، وَاجْعَلْ لَنَا الْعَاقِبَةَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، قَالَ اللَّهُ : نَعَمْ . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " قَالَ اللَّهُ : قَدْ فَعَلْتُ " .

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، أَنَّ مُعَاذًا ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ ( فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) قَالَ : آمِينَ .

وَرَوَاهُ وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ رَجُلٍ ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ : أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَتَمَ الْبَقَرَةَ قَالَ : آمِينَ .

--------------
آخر آيات تفسيرا لسورة البقرة والحمد لله رب العالمين
-------------------------

22 من ص 172حتي ص 179

172
( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 262 ) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( 263 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( 264 )

يَمْدَحُ تَعَالَى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالصَّدَقَاتِ مَنًّا عَلَى مَنْ أَعْطَوْهُ ، فَلَا يَمُنُّونَ عَلَى أَحَدٍ ، وَلَا يَمُنُّونَ بِهِ لَا بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ .

وَقَوْلُهُ : ( وَلَا أَذًى ) أَيْ : لَا يَفْعَلُونَ مَعَ مَنْ أَحْسَنُوا إِلَيْهِ مَكْرُوهًا يُحْبِطُونَ بِهِ مَا سَلَفَ مِنَ الْإِحْسَانِ . ثُمَّ وَعَدَهُمْ تَعَالَى الْجَزَاءَ الْجَزِيلَ عَلَى ذَلِكَ ، فَقَالَ : ( لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) أَيْ : ثَوَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ، لَا عَلَى أَحَدٍ سِوَاهُ ( وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) أَيْ : فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ( وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) أَيْ:[عَلَى] مَا خَلَّفُوهُ مِنَ الْأَوْلَادِ وَمَا فَاتَهُمْ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا لَا يَأْسَفُونَ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) أَيْ : مِنْ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ وَدُعَاءٍ لِمُسْلِمٍ ( وَمَغْفِرَةٌ ) أَيْ : غَفَرَ عَنْ ظُلْمٍ قَوْلِيٍّ أَوْ فِعْلِيٍّ ( خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى )

قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُفَيْلٍ قَالَ : قَرَأْتُ عَلَى مَعْقِلِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ : بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَا مِنْ صَدَقَةٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَوْلٍ مَعْرُوفٍ ، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ : ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ) " ) وَاللَّهُ غَنِيٌّ ) [ أَيْ ] : عَنْ خَلْقِهِ .

( حَلِيمٌ ) أَيْ : يَحْلُمُ وَيَغْفِرُ وَيَصْفَحُ وَيَتَجَاوَزُ عَنْهُمْ .

وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمَنِّ فِي الصَّدَقَةِ ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُسْهِرٍ ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحَرِّ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : الْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ " .

وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ يَحْيَى ، أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمُ بْنُ خَارِجَةَ ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عُقْبَةَ ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ ، وَلَا مَنَّانٌ ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ ، وَلَا مُكَذِّبٌ بِقَدَرٍ "[ ص: 694 ]
وَرَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ ، مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ نَحْوَهُ .

ثُمَّ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ الْأَعْرَجِ ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى " .

وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ عَمِّهِ رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ ، عَنْ عَتَّابِ بْنِ بَشِيرٍ ، عَنْ خُصَيْفٍ الْجَزَرِيِّ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مُدْمِنُ خَمْرٍ ، وَلَا عَاقٌّ لِوَالِدَيْهِ ، وَلَا مَنَّانٌ " .

وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْمِنْهَالِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيِّ ، عَنْ عَتَّابٍ ، عَنْ خُصَيْفٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ، عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مَالِكٍ الْجَزَرِيِّ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَوْلُهُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، نَحْوَهُ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ) فَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَبْطُلُ بِمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى ، فَمَا يَفِي ثَوَابَ الصَّدَقَةَ بِخَطِيئَةِ الْمَنِّ وَالْأَذَى .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : ( كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ) أَيْ : لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ، كَمَا تَبْطُلُ صَدَقَةُ مَنْ رَاءَى بِهَا النَّاسَ ، فَأَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ مَدْحُ النَّاسِ لَهُ أَوْ شُهْرَتُهُ بِالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ ، لِيُشْكَرَ بَيْنَ النَّاسِ ، أَوْ يُقَالَ : إِنَّهُ كَرِيمٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، مَعَ قَطْعِ نَظَرِهِ عَنْ مُعَامَلَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ : ( وَلَا يُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ )

ثُمَّ ضَرَبَ تَعَالَى مَثَلَ ذَلِكَ الْمُرَائِي بِإِنْفَاقِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ : وَالَّذِي يُتْبِعُ نَفَقَتَهُ مَنًّا أَوْ أَذًى فَقَالَ : ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ ) وَهُوَ جَمْعُ صَفْوَانَةٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الصَّفْوَانُ يُسْتَعْمَلُ مُفْرَدًا أَيْضًا ، وَهُوَ الصَّفَا ، وَهُوَ الصَّخْرُ الْأَمْلَسُ ( عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ ) وَهُوَ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ ( فَتَرَكَهُ صَلْدًا ) أَيْ : فَتَرَكَ الْوَابِلُ ذَلِكَ الصَّفْوَانَ صَلْدًا ، أَيْ : أَمْلَسَ يَابِسًا ، أَيْ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ ، بَلْ قَدْ ذَهَبَ كُلُّهُ ، أَيْ : وَكَذَلِكَ أَعْمَالُ الْمُرَائِينَ تَذْهَبُ وَتَضْمَحِلُّ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُمْ أَعْمَالٌ فِيمَا يَرَى النَّاسُ كَالتُّرَابِ ; وَلِهَذَا قَالَ : ( لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) .

173
( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 265 )[ ص: 695 ]

وَهَذَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْفِقِينَ ( أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ) عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ ( وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) أَيْ : وَهُمْ مُتَحَقِّقُونَ مُثَبَّتُونَ أَنَّ اللَّهَ سَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ ، وَنَظِيرُ هَذَا فِي الْمَعْنَى ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَى صِحَّتِهِ : " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا . . . " أَيْ : يُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ شَرَعَهُ ، وَيَحْتَسِبُ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابَهُ .

قَالَ الشَّعْبِيُّ : ( وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) أَيْ : تَصْدِيقًا وَيَقِينًا . وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ ، وَأَبُو صَالِحٍ ، وَابْنُ زَيْدٍ . وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ : أَيْ : يَتَثَبَّتُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ صَدَقَاتِهِمْ .

وَقَوْلُهُ : ( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ ) أَيْ : كَمَثَلِ بُسْتَانٍ بِرَبْوَةٍ . وَهُوَ عِنْدُ الْجُمْهُورِ : الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ . وَزَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ : وَتَجْرِي فِيهِ الْأَنْهَارُ .

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : وَفِي الرَّبْوَةِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ هُنَّ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ : بِضَمِّ الرَّاءِ ، وَبِهَا قَرَأَ عَامَّةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ . وَفَتْحِهَا ، وَهِيَ قِرَاءَةُ بَعْضِ أَهْلِ الشَّامِ وَالْكُوفَةِ ، وَيُقَالُ : إِنَّهَا لُغَةُ تَمِيمٍ . وَكَسْرِ الرَّاءِ ، وَيُذْكَرُ أَنَّهَا قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ .

وَقَوْلُهُ : ( أَصَابَهَا وَابِلٌ ) وَهُوَ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، ( فَآتَتْ أُكُلَهَا ) أَيْ : ثَمَرَتَهَا ) ضِعْفَيْنِ ) أَيْ : بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْجِنَانِ . ( فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ) قَالَ الضَّحَّاكُ : هُوَ الرَّذَاذُ ، وَهُوَ اللَّيِّنُ مِنَ الْمَطَرِ . أَيْ : هَذِهِ الْجَنَّةُ بِهَذِهِ الرَّبْوَةِ لَا تَمْحُلُ أَبَدًا ; لِأَنَّهَا إِنْ لَمْ يَصُبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ كِفَايَتُهَا ، وَكَذَلِكَ عَمَلُ الْمُؤْمِنُ لَا يَبُورُ أَبَدًا ، بَلْ يَتَقَبَّلُهُ اللَّهُ وَيُكَثِّرُهُ وَيُنَمِّيهِ ، كُلُّ عَامِلٍ بِحَسْبِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ : ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) أَيْ : لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ عِبَادِهِ شَيْءٌ .

174
( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقْتُ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( 266 ) )

قَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ ، يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَسَمِعْتُ أَخَاهُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ : قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمًا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِيمَنْ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ : ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) ؟ قَالُوا : اللَّهُ أَعْلَمُ . فَغَضِبَ عُمَرُ فَقَالَ : قُولُوا : نَعْلَمُ أَوْ لَا نَعْلَمُ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ . فَقَالَ عُمَرُ : يَا ابْنَ أَخِي ، قُلْ وَلَا تُحَقِّرْ نَفْسَكَ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ . قَالَ عُمَرُ : أَيُّ عَمَلٍ ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لِعَمَلٍ . قَالَ عُمَرُ : لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ . ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي [ ص: 696 ] حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ .

ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيِّ ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، فَذَكَرَهُ . وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ .

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ كِفَايَةٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَتَبْيِينِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَثَلِ بِعَمَلِ مَنْ أَحْسَنَ الْعَمَلَ أَوَّلًا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ انْعَكَسَ سَيْرُهُ ، فَبَدَّلَ الْحَسَنَاتِ بِالسَّيِّئَاتِ ، عِيَاذًا بِالْلَّهِ مِنْ ذَلِكَ ، فَأَبْطَلَ بِعَمَلِهِ الثَّانِي مَا أَسْلَفَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الصَالِحٍ وَاحْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَوَّلِ فِي أَضْيَقِ الْأَحْوَالِ ، فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَخَانَهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : ( وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ ) وَهُوَ الرِّيحُ الشَّدِيدُ ( فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ) أَيْ : أَحْرَقَ ثِمَارَهَا وَأَبَادَ أَشْجَارَهَا ، فَأَيُّ حَالٍ يَكُونُ حَالُهُ .

وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : ضَرَبَ اللَّهُ لَهُ مَثَلًا حَسَنًا ، وَكُلُّ أَمْثَالِهِ حَسَنٌ ، قَالَ : ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ) يَقُولُ : ضَيَّعَهُ فِي شَيْبَتِهِ ( وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ ) وَوَلَدُهُ وَذُرِّيَّتُهُ ضِعَافٌ عِنْدَ آخَرِ عُمُرِهِ ، فَجَاءَهُ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَأَحْرَقَ بُسْتَانَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ قُوَّةً أَنْ يَغْرِسَ مِثْلَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ نَسْلِهِ خَيْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، إِذْ رُدَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، لَيْسَ لَهُ خَيْرٌ فَيُسْتَعْتَبُ ، كَمَا لَيْسَ لِهَذَا قُوَّةٌ فَيَغْرِسُ مِثْلَ بُسْتَانِهِ ، وَلَا يَجِدُهُ قَدَّمَ لِنَفْسِهِ خَيْرًا يَعُودُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَمْ يُغْنِ عَنْ هَذَا وَلَدُهُ ، وَحُرِمَ أَجْرَهُ عِنْدَ أَفْقَرِ مَا كَانَ إِلَيْهِ ، كَمَا حُرِمَ هَذَا جِنَّةَ اللَّهِ عِنْدَ أَفْقَرِ مَا كَانَ إِلَيْهَا عِنْدَ كِبَرِهِ وَضَعْفِ ذُرِّيَّتِهِ .

وَهَكَذَا ، رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : " اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَوْسَعَ رِزْقِكَ عَلَيَّ عِنْدَ كِبَرِ سِنِّي وَانْقِضَاءِ عُمُرِي " ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) أَيْ : تَعْتَبِرُونَ وَتَفْهَمُونَ الْأَمْثَالَ وَالْمَعَانِي ، وَتُنْزِلُونَهَا عَلَى الْمُرَادِ مِنْهَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) [ الْعَنْكَبُوتِ : 43 ] .

175
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 267 ) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( 268 ) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ( 269 )[ ص: 697 ]يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِنْفَاقِ وَالْمُرَادُ بِهِ الصَّدَقَةُ هَاهُنَا ; قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا . قَالَ مُجَاهِدٌ : يَعْنِي التِّجَارَةَ بِتَيْسِيرِهِ إِيَّاهَا لَهُمْ .
وَقَالَ عَلِيٌّ وَالسُّدِّيُّ : ( مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) يَعْنِي : الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ ، وَمِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ الَّتِي أَنْبَتَهَا لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَمَرَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ أَطِيبِ الْمَالِ وَأَجْوَدِهِ وَأَنْفَسِهِ ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّصَدُّقِ بِرُذَالَةِ الْمَالِ وَدَنِيِّهِ وَهُوَ خَبِيثُهُ فَإِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا ، وَلِهَذَا قَالَ : ( وَلَا تَيَمَّمُوا ) أَيْ : تَقْصِدُوا ( الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ ) أَيْ : لَوْ أُعْطِيتُمُوهُ مَا أَخَذْتُمُوهُ ، إِلَّا أَنْ تَتَغَاضَوْا فِيهِ ، فَاللَّهُ أَغْنَى عَنْهُ مِنْكُمْ ، فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ مَا تَكْرَهُونَ .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ : ( وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) أَيْ : لَا تَعْدِلُوا عَنِ الْمَالِ الْحَلَالِ ، وَتَقْصِدُوا إِلَى الْحَرَامِ ، فَتَجْعَلُوا نَفَقَتَكُمْ مِنْهُ .
وَيُذْكَرُ هَاهُنَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ ، حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنِ الصَّبَّاحِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ ، وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ " . قَالُوا : وَمَا بَوَائِقُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ؟ . قَالَ : " غَشْمُهُ وَظُلْمُهُ ، وَلَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ فَيُنْفِقَ مِنْهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ مِنْهُ ، وَلَا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ ، إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ " .
وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ; قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرٍو الْعَنْقَزِيُّ ، حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنْ أَسْبَاطٍ ، عَنِ السُّدِّيِّ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) الْآيَةَ . قَالَ : نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ ، كَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا كَانَ أَيَّامَ جِذَاذِ النَّخْلِ ، أَخْرَجَتْ مِنْ حِيطَانِهَا أَقْنَاءَ الْبُسْرِ ، فَعَلَّقُوهُ عَلَى حَبْلٍ بَيْنَ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَأْكُلُ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُ ، فَيَعْمِدُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِلَى الْحَشَفِ ، فَيُدْخِلُهُ مَعَ أَقْنَاءِ الْبُسْرِ ، يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ : ( وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ )
ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ، مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ ، عَنْ [ ص: 698 ] عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنِ الْبَرَاءِ ، بِنَحْوِهِ . وَقَالَ الْحَاكِمُ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ ، عَنْ إِسْرَائِيلَ ، عَنِ السُّدِّيِّ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، عَنِ الْبَرَاءِ : ( وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ) قَالَ : نَزَلَتْ فِينَا ، كُنَّا أَصْحَابَ نَخْلٍ ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي مِنْ نَخْلِهِ بِقَدْرِ كَثْرَتِهِ وَقِلَّتِهِ ، فَيَأْتِي الرَّجُلُ بِالْقِنْوِ فَيُعَلِّقُهُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَكَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا جَاعَ جَاءَ فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ ، فَيَسْقُطُ مِنْهُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ ، فَيَأْكُلُ ، وَكَانَ أُنَاسٌ مِمَّنْ لَا يَرْغَبُونَ فِي الْخَيْرِ يَأْتِي بِالْقِنْوِ فِيهِ الْحَشَفُ وَالشِّيصُ ، وَيَأْتِي بِالْقِنْوِ قَدِ انْكَسَرَ فَيُعَلِّقُهُ ، فَنَزَلَتْ : ( وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ) قَالَ : لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أُهْدِيَ لَهُ مِثْلَ مَا أَعْطَى مَا أَخَذَهُ إِلَّا عَلَى إِغْمَاضٍ وَحَيَاءٍ ، فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ يَجِيءُ الرَّجُلُ مِنَّا بِصَالِحِ مَا عِنْدَهُ .
وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مُوسَى الْعَبْسِيُّ عَنْ إِسْرَائِيلَ ، عَنِ السُّدِّيِّ وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ وَاسْمُهُ غَزْوَانُ عَنِ الْبَرَاءِ ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ . ثُمَّ قَالَ : وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لَوْنَيْنِ مِنَ التَّمْرِ : الْجُعْرُورِ وَلَوْنِ الْحُبَيْقِ . وَكَانَ النَّاسُ يَتَيَمَّمُونَ شِرَارَ ثِمَارِهِمْ ثُمَّ يُخْرِجُونَهَا فِي الصَّدَقَةِ ، فَنَزَلَتْ : ( وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ [ بِهِ ] . ثُمَّ قَالَ : أَسْنَدَهُ أَبُو الْوَلِيدِ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، وَلَفْظُهُ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْجُعْرُورِ وَلَوْنِ الْحُبَيْقِ أَنْ يُؤْخَذَا فِي الصَّدَقَةِ .
وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْجَلِيلِ بْنِ حُمَيْدٍ الْيَحْصُبِيُّ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ . وَلَمْ يَقُلْ : عَنْ أَبِيهِ ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ . وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ ، عَنْ عَبْدِ الْجَلِيلِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : ( وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) قَالَ : كَسْبُ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ خَبِيثًا ، وَلَكِنْ لَا يَصَّدَّقُ بِالْحَشَفِ ، وَالدِّرْهَمِ الزَّيْفِ ، وَمَا لَا خَيْرَ فِيهِ [ ص: 699 ]وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ حَمَّادٍ هُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنِ الْأَسْوَدِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَبٍّ فَلَمْ يَأْكُلْهُ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ . قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، نُطْعِمُهُ الْمَسَاكِينَ ؟ قَالَ : " لَا تُطْعِمُوهُمْ مِمَّا لَا تَأْكُلُونَ " .
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ عَفَّانَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، بِهِ . فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلَّا أُطْعِمَهُ الْمَسَاكِينَ ؟ قَالَ : " لَا تُطْعِمُوهُمْ مَا لَا تَأْكُلُونَ " .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : عَنِ السُّدِّيِّ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، عَنِ الْبَرَاءِ ( وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ) يَقُولُ : لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ ، فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ لَمْ يَأْخُذْهُ ; إِلَّا أَنْ يَرَى أَنَّهُ قَدْ نَقَصَهُ مِنْ حَقِّهِ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ) يَقُولُ : لَوْ كَانَ لَكُمْ عَلَى أَحَدٍ حَقٌّ ، فَجَاءَكُمْ بِحَقٍّ دُونَ حَقِّكُمْ لَمْ تَأْخُذُوهُ بِحِسَابِ الْجَيِّدِ حَتَّى تَنْقُصُوهُ . قَالَ : فَذَلِكَ قَوْلُهُ : ( إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ) فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ لِي مَا لَا تَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِكُمْ ، وَحَقِّي عَلَيْكُمْ مِنْ أَطْيَبِ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفَسِهِ ! !
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، وَابْنُ جَرِيرٍ ، وَزَادَ : وَهُوَ قَوْلُهُ : ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) [ آلِ عِمْرَانَ : 92 ] . ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ وَغَيْرِهِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ ذَلِكَ ، وَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ . قَوْلُهُ : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) أَيْ : وَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالصَّدَقَاتِ وَبِالطَّيِّبِ مِنْهَا فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِيُسَاوِيَ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ ، كَقَوْلِهِ : ( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ) [ الْحَجِّ : 37 ] وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ ، وَجَمِيعُ خَلْقِهِ فَقُرَاءُ إِلَيْهِ ، وَهُوَ وَاسِعُ الْفَضْلِ لَا يَنْفَدُ مَا لَدَيْهِ ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ وَاسِعُ الْعَطَاءِ ، كَرِيمٌ جَوَادٌ ، سَيَجْزِيهِ بِهَا وَيُضَاعِفُهَا لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً مَنْ يُقْرَضُ غَيْرُ عَدِيمٍ وَلَا ظَلُومٍ ، وَهُوَ الْحَمِيدُ ، أَيِ : الْمَحْمُودُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ .

وَقَوْلُهُ : ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ، حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنْ لِلشَّيْطَانِ لَلَمَّةً بِابْنِ آدَمَ ، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً ، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ . فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ مِنَ الشَّيْطَانِ " . ثُمَّ قَرَأَ : ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ) الْآيَةَ .

وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي كِتَابَيِ التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنَيْهِمَا جَمِيعًا ، عَنْ هَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ .[ ص: 700 ]وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ، عَنْ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ ، عَنْ هَنَّادٍ ، بِهِ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي الْأَحْوَصِ يَعْنِي سَلَّامَ بْنَ سُلَيْمٍ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ . كَذَا قَالَ . وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رُسْتَهُ ، عَنْ هَارُونَ الْفَرْوِيِّ ، عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، مَرْفُوعًا نَحْوَهُ .
وَلَكِنْ رَوَاهُ مِسْعَرٌ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَضْلَةَ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ . فَجَعَلَهُ مِنْ قَوْلِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ) أَيْ : يُخَوِّفُكُمُ الْفَقْرَ ، لِتُمْسِكُوا مَا بِأَيْدِيكُمْ فَلَا تُنْفِقُوهُ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ ، ( وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ) أَيْ : مَعَ نَهْيِهِ إِيَّاكُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ ، يَأْمُرُكُمْ بِالْمَعَاصِي وَالْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ وَمُخَالَفَةِ الْخَلَّاقِ ، قَالَ [ اللَّهُ ] تَعَالَى : ( وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ ) أَيْ : فِي مُقَابَلَةِ مَا أَمَرَكُمُ الشَّيْطَانُ بِالْفَحْشَاءِ ) وَفَضْلًا ) أَيْ : فِي مُقَابَلَةِ مَا خَوَّفَكُمُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْفَقْرِ ) وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )
وَقَوْلُهُ : ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ) قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : يَعْنِي الْمَعْرِفَةَ بِالْقُرْآنِ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ ، وَمُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ ، وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ ، وَأَمْثَالِهِ .

وَرَوَى جُوَيْبِرٌ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا : الْحِكْمَةُ : الْقُرْآنُ . يَعْنِي : تَفْسِيرُهُ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَإِنَّهُ [ قَدْ ] قَرَأَهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ . رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : يَعْنِي بِالْحِكْمَةِ : الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ .
وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ) لَيْسَتْ بِالنُّبُوَّةِ ، وَلَكِنَّهُ الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ وَالْقُرْآنُ .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : الْحِكْمَةُ خَشْيَةُ اللَّهِ ، فَإِنَّ خَشْيَةَ اللَّهِ رَأْسُ كُلِّ حِكْمَةٍ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ ، مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ زُفَرَ الْجُهَنِيِّ ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ الْأَسَدِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا : " رَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ اللَّهِ " .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : الْحِكْمَةُ : الْكِتَابُ وَالْفَهْمُ . وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : الْحِكْمَةُ : الْفَهْمُ . وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ : الْحِكْمَةُ : السُّنَّةُ . وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ ، عَنْ مَالِكٍ ، قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ : الْحِكْمَةُ : الْعَقْلُ . قَالَ مَالِكٌ : وَإِنَّهُ لَيَقَعُ فِي قَلْبِي أَنَّ الْحِكْمَةَ هُوَ الْفِقْهُ فِي دِينِ اللَّهِ ، وَأَمْرٌ يُدْخِلُهُ اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ ، وَمِمَّا يُبَيَّنُ ذَلِكَ ، أَنَّكَ تَجِدُ الرَّجُلَ عَاقِلًا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا ذَا نَظَرٍ فِيهَا ، وَتَجِدُ آخَرَ ضَعِيفًا فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ ، عَالِمًا بِأَمْرِ دِينِهِ ، بَصِيرًا بِهِ ، يُؤْتِيهِ اللَّهُ إِيَّاهُ وَيَحْرِمُهُ هَذَا ، فَالْحِكْمَةُ : الْفِقْهُ فِي دِينِ اللَّهِ .
وَقَالَ السُّدِّيُّ : الْحِكْمَةُ : النُّبُوَّةُ . [ ص: 701 ]وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحِكْمَةَ كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ لَا تَخْتَصُّ بِالنُّبُوَّةِ ، بَلْ هِيَ أَعَمُّ مِنْهَا ، وَأَعْلَاهَا النُّبُوَّةُ ، وَالرِّسَالَةُ أَخَصُّ ، وَلَكِنْ لِأَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ حَظٌّ مِنَ الْخَيْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ ، كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ : " مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ فَقَدْ أُدْرِجَتِ النُّبُوَّةُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ " . رَوَاهُ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي تَفْسِيرِهِ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمِّهِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَوْلُهُ .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَيَزِيدُ قَالَا : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ يَعْنِي ابْنَ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا " .

وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَمُسْلِمٌ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ ، بِهِ .

وَقَوْلُهُ : ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) أَيْ : وَمَا يَنْتَفِعُ بِالْمَوْعِظَةِ وَالتِّذْكَارِ إِلَّا مَنْ لَهُ لُبٌّ وَعَقْلٌ يَعِي بِهِ الْخِطَابَ وَمَعْنَى الْكَلَامِ .

176

( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ( 270 ) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 271 )

يُخْبِرُ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ الْعَامِلُونَ مِنَ الْخَيْرَاتِ مِنَ النَّفَقَاتِ وَالْمَنْذُورَاتِ وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ مُجَازَاتُهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ لِلْعَامِلِينَ لِذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ وَرَجَاءَ مَوْعُودِهِ . وَتَوَعَّدَ مَنْ لَا يَعْمَلُ بِطَاعَتِهِ ، بَلْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَكَذَّبَ خَبَرَهُ وَعَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ ، فَقَالَ : ( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ) أَيْ : يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُنْقِذُونَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَنِقْمَتِهِ .

وَقَوْلُهُ : ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) أَيْ : إِنْ أَظْهَرْتُمُوهَا فَنِعْمَ شَيْءٌ هِيَ .

وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ إِسْرَارَ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهَا ; لِأَنَّهُ أَبْعَدَ عَنِ الرِّيَاءِ ، إِلَّا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْإِظْهَارِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ ، مِنَ اقْتِدَاءِ النَّاسِ بِهِ ، فَيَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ " .

وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِسْرَارَ أَفْضَلُ ، لِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَلِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ [ ص: 702 ] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ : إِمَامٌ عَادِلٌ ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ فَقَالَ : إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ " .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ ، فَخَلَقَ الْجِبَالَ فَأَلْقَاهَا عَلَيْهَا فَاسْتَقَرَّتْ ، فَتَعَجَّبَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ خَلْقِ الْجِبَالِ ، فَقَالَتْ : يَا رَبِّ ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْجِبَالِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، الْحَدِيدُ . قَالَتْ : يَا رَبِّ ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، النَّارُ . قَالَتْ : يَا رَبِّ ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ النَّارِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، الْمَاءُ . قَالَتْ : يَا رَبِّ ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْمَاءِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، الرِّيحُ . قَالَتْ : يَا رَبِّ ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، ابْنُ آدَمَ يَتَصَدَّقُ بِيَمِينِهِ فَيُخْفِيهَا مِنْ شَمَالِهِ " .

وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي فَضْلِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : " سِرٌّ إِلَى فَقِيرٍ ، أَوْ جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ " . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ ، عَنِ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ فَذَكَرَهُ . وَزَادَ : ثُمَّ نَزَعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ : ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) الْآيَةَ .
وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ : " صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ ، عَزَّ وَجَلَّ " .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ زِيَادٍ الْمُحَارِبِيُّ مُؤَدِّبُ مُحَارِبٍ ، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُمَيْرٍ ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ : ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) قَالَ : أُنْزِلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَأَمَّا عُمَرُ فَجَاءَ بِنِصْفِ مَالِهِ حَتَّى دَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا خَلَّفْتَ وَرَاءَكَ لِأَهْلِكَ يَا عُمَرُ ؟ " . قَالَ : خَلَّفْتُ لَهُمْ نِصْفَ مَالِي ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَجَاءَ بِمَالِهِ كُلِّهِ يَكَادُ أَنْ يُخْفِيَهُ مِنْ نَفْسِهِ ، حَتَّى دَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا خَلَّفْتَ وَرَاءَكَ لِأَهْلِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ؟ " . فَقَالَ : عِدَةُ اللَّهِ وَعِدَةُ رَسُولِهِ . فَبَكَى عُمَرُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَالَ : بِأَبِي أَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ ، وَاللَّهِ مَا اسْتَبَقْنَا إِلَى بَابِ خَيْرٍ قَطُّ إِلَّا كُنْتَ سَابِقًا [ ص: 703 ] وَهَذَا الْحَدِيثُ مَرْوِيٌّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، عَنْ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهُ هَاهُنَا لِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ : إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ إِنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي أَنَّ إِخْفَاءَ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ، سَوَاءً كَانَتْ مَفْرُوضَةً أَوْ مَنْدُوبَةً . لَكِنْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ ، قَالَ : جَعَلَ اللَّهُ صَدَقَةَ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ تَفْضُلُ عَلَانِيَتَهَا ، فَقَالَ : بِسَبْعِينَ ضِعْفًا . وَجَعَلَ صَدَقَةَ الْفَرِيضَةِ عَلَانِيَتَهَا أَفْضَلَ مِنْ سِرِّهَا ، فَقَالَ : بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضِعْفًا .

وَقَوْلُهُ : ( وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ) أَيْ : بَدَلَ الصَّدَقَاتِ ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ سِرًّا يَحْصُلُ لَكُمُ الْخَيْرُ فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمُ السَّيِّئَاتِ ، وَقَدْ قُرِئَ : " وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ " بِالضَّمِّ ، وَقُرِئَ : " وَنُكَفِّرْ " بِالْجَزْمِ ، عَطْفًا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : ( فَنِعِمَّا هِيَ ) كَقَوْلِهِ : " فَأَصَّدَقَ وَأَكُونَ " ( وَأَكُنْ ) .

وَقَوْلُهُ ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) أَيْ : لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ، وَسَيَجْزِيكُمْ عَلَيْهِ [ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ ] .

177
( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ( 272 ) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( 273 ) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 274 ) )

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ ، أَخْبَرَنَا الْفِرْيَابِيُّ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَرْضَخُوا لِأَنْسَابِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسَأَلُوا ، فَرَخَّصَ لَهُمْ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ) .

وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو حُذَيْفَةَ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ ، وَأَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ ، وَأَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ بِهِ .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عَطِيَّةَ ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَعْنِي الدَّشْتَكِيَّ حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنْ أَبِيهِ ، حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ ، عَنْ سَعِيدِ [ ص: 704 ] بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِأَلَّا يُتَصَدَّقَ إِلَّا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ) إِلَى آخِرِهَا ، فَأَمَرَ بِالصَّدَقَةِ بَعْدَهَا عَلَى كُلِّ مَنْ سَأَلَكَ مِنْ كُلِّ دِينٍ . وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : ( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ) الْآيَةَ [ الْمُمْتَحِنَةِ : 8 ] حَدِيثَ أَسْمَاءَ بِنْتِ الصَّدِيقِ فِي ذَلِكَ [ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ] .

وَقَوْلُهُ : ( وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ ) كَقَوْلِهِ ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ) [ فُصِّلَتْ : 46 ، الْجَاثِيَةِ : 15 ] وَنَظَائِرُهَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ .

وَقَوْلُهُ : ( وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ) قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : نَفَقَةُ الْمُؤْمِنِ لِنَفْسِهِ ، وَلَا يُنْفِقُ الْمُؤْمِنُ إِذَا أَنْفَقَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ .

وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ : يَعْنِي إِذَا أَعْطَيْتَ لِوَجْهِ اللَّهِ ، فَلَا عَلَيْكَ مَا كَانَ عَمَلُهُ ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ إِذَا تَصَدَّقَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَلَا عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِمَنْ أَصَابَ : أَلِبَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ أَوْ مُسْتَحَقٍّ أَوْ غَيْرِهِ ، هُوَ مُثَابٌ عَلَى قَصْدِهِ ، وَمُسْتَنَدُ هَذَا تَمَامُ الْآيَةِ : ( وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ) وَالْحَدِيثُ الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَالَ رَجُلٌ : لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ : تُصُدِّقَ عَلَى زَانِيَةٍ ! فَقَالَ : اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ ، لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ : تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى غَنِيٍّ ! فَقَالَ : اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِيٍّ ، لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ : تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى سَارِقٍ ! فَقَالَ : اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ ، وَعَلَى غَنِيٍّ ، وَعَلَى سَارِقٍ ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ : أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ ; وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ بِهَا عَنْ زِنَاهَا ، وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ ، وَلَعَلَّ السَّارِقَ أَنْ يَسْتَعِفَّ بِهَا عَنْ سَرِقَتِهِ " .

وَقَوْلُهُ : ( لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) يَعْنِي : الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ قَدِ انْقَطَعُوا إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ ، وَسَكَنُوا الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ لَهُمْ سَبَبٌ يَرُدُّونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا يُغْنِيهِمْ وَ ( لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ ) يَعْنِي : سَفَرًا لِلتَّسَبُّبِ فِي طَلَبِ الْمَعَاشِ . وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ : هُوَ السَّفَرُ ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ ) [ النِّسَاءِ : 101 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : ( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) الْآيَةَ [ الْمُزَّمِّلِ : 20 ] .

وَقَوْلُهُ : ( يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ) أَيِ : الْجَاهِلُ بِأَمْرِهِمْ وَحَالِهِمْ يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ ، مِنْ تَعَفُّفِهِمْ فِي لِبَاسِهِمْ وَحَالِهِمْ وَمَقَالِهِمْ . وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْحَدِيثُ الْمُتَّفِقُ عَلَى صِحَّتِهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :[ ص: 705 ]قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ ، وَاللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ ، وَالْأُكْلَةُ وَالْأُكْلَتَانِ ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسُ شَيْئًا " . وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا .
وَقَوْلُهُ : ( تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ ) أَيْ : بِمَا يَظْهَرُ لِذَوِي الْأَلْبَابِ مِنْ صِفَاتِهِمْ ، كَمَا قَالَ [ اللَّهُ ] تَعَالَى : ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ ) [ الْفَتْحِ : 29 ] ، وَقَالَ : ( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) [ مُحَمَّدٍ : 30 ] . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ : " اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ " ، ثُمَّ قَرَأَ : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) [ الْحِجْرِ : 75 ] .

وَقَوْلُهُ : ( لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ) أَيْ : لَا يُلِحُّونَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَيُكَلِّفُونَ النَّاسَ مَا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ ، فَإِنَّ مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ عَنِ السُّؤَالِ ، فَقَدْ أَلْحَفَ فِي الْمَسْأَلَةِ ; قَالَ الْبُخَارِيُّ :

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ، حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ : أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيَّ قَالَا : سَمِعْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ ، وَلَا اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ ; اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ يَعْنِي قَوْلَهُ : ( لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ) .

وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَدِينِيِّ ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ وَحْدَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، بِهِ .

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ : أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ، أَخْبَرَنَا شَرَّيْكٌ وَهُوَ ابْنُ أَبِي نَمِرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ ، وَاللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ ; اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ :(لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، نَحْوَهُ .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ عَلَيْكُمْ ، فَتُطْعِمُونَهُ لُقْمَةً لُقْمَةً ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا " .

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي مُعْتَمِرٌ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَاتِكَ عَنْ صَالِحِ بْنِ سُوَيْدٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [ ص: 706 ] قَالَ : لَيْسَ الْمِسْكِينُ الطَّوَّافَ الَّذِي تَرُدُّهُ الْأُكْلَةُ وَالْأُكْلَتَانِ ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الْمُتَعَفِّفُ فِي بَيْتِهِ ، لَا يَسْأَلُ النَّاسُ شَيْئًا تُصِيبُهُ الْحَاجَةُ ; اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ : ( لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا )

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ الْحَنَفِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ ، أَنَّهُ قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ : أَلَا تَنْطَلِقَ فَتَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ كَمَا يَسْأَلُهُ النَّاسُ ؟ فَانْطَلَقْتُ أَسْأَلُهُ ، فَوَجَدْتُهُ قَائِمًا يَخْطُبُ ، وَهُوَ يَقُولُ : " وَمَنِ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنِ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْأَلِ النَّاسَ وَلَهُ عَدْلُ خَمْسِ أَوَاقٍ فَقَدْ سَأَلَ النَّاسَ إِلْحَافًا " . فَقُلْتُ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي : لَنَاقَةٌ لِي خَيْرٌ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ ، وَلِغُلَامِهِ نَاقَةٌ أُخْرَى فَهِيَ خَيْرٌ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسْأَلْ .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الرِّجَالِ ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَرَّحَتْنِي أُمِّي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَسْأَلُهُ ، فَأَتَيْتُهُ فَقَعَدْتُ ، قَالَ : فَاسْتَقْبَلَنِي فَقَالَ : " مَنِ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ ، وَمَنِ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنِ اسْتَكَفَّ كَفَاهُ اللَّهُ ، وَمَنْ سَأَلَ وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ فَقَدْ أَلْحَفَ " . قَالَ : فَقُلْتُ : نَاقَتِي الْيَاقُوتَةُ خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ . فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسْأَلْهُ .

وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ ، كِلَاهُمَا عَنْ قُتَيْبَةَ . زَادَ أَبُو دَاوُدَ : وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ بِإِسْنَادِهِ ، نَحْوَهُ .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا أَبُو الْجَمَاهِيرِ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الرِّجَالِ ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ سَأَلَ وَلَهُ قِيمَةُ وُقِيَّةٍ فَهُوَ مُلْحِفٌ " وَالْوُقِيَّةُ : أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا .

وَقَالَ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عَدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا " .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ ، جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ " . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا غِنَاهُ ؟ قَالَ : " خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، أَوْ حِسَابُهَا مِنَ الذَّهَبِ " .
وَقَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ ، مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ الْأَسَدِيِّ الْكُوفِيِّ . وَقَدْ تَرَكَهُ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، وَضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنْ جَرَّاءِ هَذَا الْحَدِيثِ .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ عَبْدُ اللَّهِ [ ص: 707 ] بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ ، حَدَّثَنِي أَبِي ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ : بَلَغَ الْحَارِثُ رَجُلًا كَانَ بِالشَّامِ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ بِهِ عَوَزٌ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ ، فَقَالَ : مَا وَجَدَ عَبْدُ اللَّهِ رَجُلًا هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنِّي ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أَرْبَعُونَ فَقَدْ أَلْحَفَ " وَلِآلِ أَبِي ذَرٍّ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعُونَ شَاةً وَمَاهِنَانِ . قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ : يَعْنِي خَادِمَيْنِ .
وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ سَابُورَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَهُوَ مُلْحِفٌ ، وَهُوَ مِثْلُ سَفِّ الْمَلَّةِ " يَعْنِي : الرَّمْلُ .

وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ ، عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ .
قَوْلُهُ : ( وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) أَيْ : لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ ، وَسَيَجْزِي عَلَيْهِ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ وَأَتَمَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، أَحْوَجَ مَا يَكُونُونَ إِلَيْهِ .

وَقَوْلُهُ : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) هَذَا مَدْحٌ مِنْهُ تَعَالَى لِلْمُنْفِقِينَ فِي سَبِيلِهِ ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ ، وَالْأَحْوَالِ مِنْ سِرٍّ وَجَهَارٍ ، حَتَّى إِنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَهْلِ تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ عَادَهُ مَرِيضًا عَامَ الْفَتْحِ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ : " وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا ازْدَدْتَ بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً ، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ " .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَبَهْزٍ قَالَا : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيَّ ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً يَحْتَسِبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً " أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ ، بِهِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرَيْبٍ الْمَلِيكِيَّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ] ) فِي أَصْحَابِ الْخَيْلِ "[ ص: 708 ]
وَقَالَ حَنَشٌ الصَّنْعَانِيُّ : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، قَالَ : هُمُ الَّذِينَ يَعْلِفُونَ الْخَيْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، ثُمَّ قَالَ : وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، وَمَكْحُولٍ .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ لِعَلِيٍّ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ ، فَأَنْفَقَ دِرْهَمًا لَيْلًا وَدِرْهَمًا نَهَارًا ، وَدِرْهَمًا سِرًّا ، وَدِرْهَمًا عَلَانِيَةً ، فَنَزَلَتْ : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً )

وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ . وَلَكِنْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ .

وَقَوْلُهُ : ( فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) أَيْ : يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا فَعَلُوا مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي الطَّاعَاتِ ( وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ .

178
( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 275 ) )

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْأَبْرَارَ الْمُؤَدِّينَ النَّفَقَاتِ ، الْمُخْرِجِينَ الزَّكَوَاتِ ، الْمُتَفَضِّلِينَ بِالْبِرِّ وَالصِّلَاتِ لِذَوِي الْحَاجَاتِ وَالْقَرَابَاتِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْآنَّاتِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ أَكَلَةِ الرِّبَا وَأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَنْوَاعِ الشُّبَهَاتِ ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ يَوْمَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَقِيَامِهِمْ مِنْهَا إِلَى بَعْثِهِمْ وَنَشُورِهِمْ ، فَقَالَ : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) أَيْ : لَا يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الْمَصْرُوعُ حَالَ صَرَعِهِ وَتَخَبُّطَ الشَّيْطَانِ لَهُ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقُومُ قِيَامًا مُنْكَرًا . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : آكِلُ الرِّبَا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يُخْنَقُ . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَالسُّدِّيِّ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ ، نَحْوُ ذَلِكَ .

وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) يَعْنِي : لَا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَكَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَابْنِ زَيْدٍ .

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ : " الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ كُلْثُومٍ ، حَدَّثَنَا أَبِي ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآكِلِ الرِّبَا : خُذْ سِلَاحَكَ لِلْحَرْبِ . وَقَرَأَ : ( لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) قَالَ : وَذَلِكَ حِينَ يَقُومُ مِنْ قَبْرِهِ[ ص: 709 ]

وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي الْإِسْرَاءِ ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ : أَنَّهُ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ لَيْلَتَئِذٍ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَجْوَافٌ مِثْلُ الْبُيُوتِ ، فَسَأَلَ عَنْهُمْ ، فَقِيلَ : هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مُطَوَّلًا .

وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِي الصَّلْتِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَتَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ بُطُونُهُمْ كَالْبُيُوتِ ، فِيهَا الْحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ . فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ : هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا " .

وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، عَنْ حَسَنٍ وَعَفَّانَ ، كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، بِهِ . وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ .

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ فِي حَدِيثِ الْمَنَامِ الطَّوِيلِ : " فَأَتَيْنَا عَلَى نَهْرٍ حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : أَحْمَرُ مِثْلُ الدَّمِ وَإِذَا فِي النَّهْرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً ، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ ، [ مَا يَسْبَحُ ] ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ الْحِجَارَةَ عِنْدَهُ فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا " وَذَكَرَ فِي تَفْسِيرِهِ : أَنَّهُ آكِلُ الرِّبَا .

وَقَوْلُهُ : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) أَيْ : إِنَّمَا جُوزُوا بِذَلِكَ لِاعْتِرَاضِهِمْ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ ، وَلَيْسَ هَذَا قِيَاسًا مِنْهُمْ لِلرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ ; لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْتَرِفُونَ بِمَشْرُوعِيَّةِ أَصْلِ الْبَيْعِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ لَقَالُوا : إِنَّمَا الرِّبَا مِثْلُ الْبَيْعِ ، وَإِنَّمَا قَالُوا : ( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) أَيْ : هُوَ نَظِيرُهُ ، فَلِمَ حَرَّمَ هَذَا وَأُبِيحَ هَذَا ؟ وَهَذَا اعْتِرَاضٌ مِنْهُمْ عَلَى الشَّرْعِ ، أَيْ : هَذَا مِثْلُ هَذَا ، وَقَدْ أَحَلَّ هَذَا وَحَرَّمَ هَذَا !

وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ رَدًّا عَلَيْهِمْ ، أَيْ : قَالُوا : مَا قَالُوهُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِتَفْرِيقِ اللَّهِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا حُكْمًا ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ، وَهُوَ الْعَالَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَمَصَالِحِهَا ، وَمَا يَنْفَعُ عِبَادَهُ فَيُبِيحُهُ لَهُمْ ، وَمَا يَضُرُّهُمْ فَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ ، وَهُوَ أَرْحَمُ بِهِمْ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا الطِّفْلِ ; وَلِهَذَا قَالَ : ( فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ) أَيْ : مَنْ بَلَغَهُ نَهْيُ اللَّهِ عَنِ الرِّبَا فَانْتَهَى حَالَ وُصُولِ الشَّرْعِ إِلَيْهِ . فَلَهُ مَا سَلَفَ مِنَ الْمُعَامَلَةِ ، لِقَوْلِهِ : ( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ) [ الْمَائِدَةِ : 95 ] وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : " وَكُلُّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيْ هَاتَيْنِ ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ " وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ الزِّيَادَاتِ الْمَأْخُوذَةِ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ ، بَلْ عَفَا عَمَّا سَلَفَ ، كَمَا قَالَ[ ص: 710 ] تَعَالَى : ( فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ )

قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ : ( فَلَهُ مَا سَلَفَ ) فَإِنَّهُ مَا كَانَ أَكَلَ مِنَ الرِّبَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : قُرِئَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنْ أُمِّ يُونُسَ يَعْنِي امْرَأَتَهُ الْعَالِيَةَ بَنْتَ أَيْفَعَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَهَا أَمُّ مُحَبَّةَ أَمُّ وَلَدٍ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، أَتَعْرِفِينَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . قَالَتْ : فَإِنِّي بِعْتُهُ عَبْدًا إِلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةٍ ، فَاحْتَاجَ إِلَى ثَمَنِهِ ، فَاشْتَرَيْتُهُ قَبْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ بِسِتِّمِائَةٍ . فَقَالَتْ : بِئْسَ مَا شَرَيْتِ ! وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ ! أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ يَتُبْ . قَالَتْ : فَقُلْتُ : أَرَأَيْتِ إِنْ تَرَكَتُ الْمِائَتَيْنِ وَأَخَذَتُ السِّتَّمِائَةِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، ( فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ ) .

وَهَذَا الْأَثَرُ مَشْهُورٌ ، وَهُوَ دَلِيلٌ لِمَنْ حَرَّمَ مَسْأَلَةَ الْعِينَةِ ، مَعَ مَا جَاءَ فِيهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُقَرِّرَةِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : ( وَمَنْ عَادَ ) أَيْ : إِلَى الرِّبَا فَفَعَلَهُ بَعْدَ بُلُوغِ نَهْيِ اللَّهِ لَهُ عَنْهُ ، فَقَدِ اسْتَوْجَبَ الْعُقُوبَةَ ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ ; وَلِهَذَا قَالَ : ( فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )

وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ الْمَكِّيُّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ لَمْ يَذْرِ الْمُخَابَرَةَ ، فَلْيَأْذَنْ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ " .

وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ خُثَيْمٍ ، وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ .

وَإِنَّمَا حُرِّمَتِ الْمُخَابَرَةُ وَهِيَ : الْمُزَارَعَةُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ ، وَالْمُزَابَنَةُ وَهِيَ : اشْتِرَاءُ الرُّطَبِ فِي رُؤُوسِ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، وَالْمُحَاقَلَةُ وَهِيَ : اشْتِرَاءُ الْحَبِّ فِي سَنْبُلِهِ فِي الْحَقْلِ بِالْحَبِّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِنَّمَا حُرِّمَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَمَا شَاكَلَهَا ، حَسْمًا لِمَادَّةِ الرِّبَا ; لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ التَّسَاوِي بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ قَبْلَ الْجَفَافِ . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : الْجَهْلُ بِالْمُمَاثِلَةِ كَحَقِيقَةِ الْمُفَاضَلَةِ . وَمِنْ هَذَا حَرَّمُوا أَشْيَاءَ بِمَا فَهِمُوا مِنْ تَضْيِيقِ الْمَسَالِكِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الرِّبَا ، وَالْوَسَائِلِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ ، وَتَفَاوُتِ نَظَرِهِمْ بِحَسَبِ مَا وَهَبَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مَنِ الْعِلْمِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : ( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) [ يُوسُفَ : 76 ] .

وَبَابُ الرِّبَا مِنْ أَشْكَلِ الْأَبْوَابِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَقَدْ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ : الْجَدُّ ، وَالْكَلَالَةُ ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا ، يَعْنِي بِذَلِكَ بَعْضَ الْمَسَائِلِ الَّتِي فِيهَا شَائِبَةُ الرِّبَا . وَالشَّرِيعَةُ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ كُلَّ [ ص: 711 ] حَرَامٍ فَالْوَسِيلَةُ إِلَيْهِ مِثْلُهُ ; لِأَنَّ مَا أَفْضَى إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ ، كَمَا أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبَهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ " .

وَفِي السُّنَنِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ " . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : " الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ وَتَرَدَّدَتْ فِيهِ النَّفْسُ ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ " . وَفِي رِوَايَةٍ : " اسْتَفْتِ قَلْبَكَ ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ " .

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : عَنْ عَاصِمٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : آخِرُ مَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةُ الرِّبَا . رَوَاهُ [ الْبُخَارِيُّ ] عَنْ قَبِيصَةَ ، عَنْهُ .

وَقَالَ أَحْمَدُ ، عَنْ يَحْيَى ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ : مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ آيَةُ الرِّبَا ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبِضَ قَبْلَ أَنْ يُفَسِّرَهَا لَنَا ، فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ .رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ .

وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ هَيَّاجِ بْنِ بَسْطَامٍ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : خَطَبَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ : إِنِّي لَعَلِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ تَصْلُحُ لَكُمْ وَآمُرُكُمْ بِأَشْيَاءَ لَا تَصْلُحُ لَكُمْ ، وَإِنَّ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا آيَةَ الرِّبَا ، وَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لَنَا ، فَدَعُوا مَا يُرِيبُكُمْ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكُمْ .

وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَاجَهْ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الصَّيْرَفِيُّ ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ زُبَيْدٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مَسْرُوقٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الرِّبَا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابًا " .

وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ، مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ ، بِإِسْنَادِ مِثْلِهِ ، وَزَادَ : " أَيْسَرُهَا أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ " . وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ [ ص: 712 ]

وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا ، أَيْسَرُهَا أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ " .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي خَيْرَةَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ مُنْذُ نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسِينَ سَنَةً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَأْكُلُونَ فِيهِ الرِّبَا " قَالَ : قِيلَ لَهُ : النَّاسُ كُلُّهُمْ ؟ قَالَ : " مَنْ لَمْ يَأْكُلْهُ مِنْهُمْ نَالَهُ مِنْ غُبَارِهِ "وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي خَيْرَةَ عَنِ الْحَسَنِ ، بِهِ .

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ، وَهُوَ تَحْرِيمُ الْوَسَائِلِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ ، عَنْ مَسْرُوقٍ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَقَرَأَهُنَّ ، فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ .

وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ سِوَى التِّرْمِذِيِّ ، مِنْ طُرُقٍ ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ وَهَكَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ، عِنْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ : فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ ، ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ . قَالَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْأَئِمَّةِ : لَمَّا حَرَّمَ الرِّبَا وَوَسَائِلَهُ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ تِجَارَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، كَمَا قَالَ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ : " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا " .

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا ، عِنْدَ لَعْنِ الْمُحَلِّلِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : ( حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ) [ الْبَقَرَةِ : 230 ] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ ، وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ " . قَالُوا : وَمَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ وَيَكْتُبُ إِلَّا إِذَا أُظْهِرَ فِي صُورَةِ عَقْدٍ شَرْعِيٍّ وَيَكُونُ دَاخِلُهُ فَاسِدًا ، فَالِاعْتِبَارُ بِمَعْنَاهُ لَا بِصُورَتِهِ ; لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ ، وَفِي الصَّحِيحِ : " إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ " .

وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ ، الْعَلَّامَةُ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ كِتَابًا فِي " إِبْطَالِ التَّحْلِيلِ " تَضَمَّنَ النَّهْيَ عَنْ تَعَاطِي الْوَسَائِلِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى كُلِّ بَاطِلٍ ، وَقَدْ كَفَى فِي ذَلِكَ وَشَفَى ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ .

179

( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ( 276 ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 277 )[ ص: 713 ]

يُخْبِرُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَمْحَقُ الرِّبَا ، أَيْ : يُذْهِبُهُ ، إِمَّا بِأَنْ يُذْهِبَهُ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ ، أَوْ يَحْرِمَهُ بَرَكَةَ مَالِهِ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ ، بَلْ يُعَذِّبُهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَيُعَاقِبُهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ) [ الْمَائِدَةِ : 100 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : ( وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) [ الْأَنْفَالِ : 37 ] ، وَقَالَ : ( وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ ) [ الْآيَةَ ] [ الرُّومِ : 39 ] .

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : فِي قَوْلِهِ : ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ) وَهَذَا نَظِيرُ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : " الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِلَى قُلٍّ " .

وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ ، فَقَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ [ قَالَ ] حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ [ بْنِ عَمِيلَةَ الْفَزَارِيِّ ] عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ تَصِيرُ إِلَى قُلٍّ " وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ جَعْفَرٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْنٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ ، عَنْ إِسْرَائِيلَ ، عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَمِيلَةَ الْفَزَارِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَا أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنَ الرِّبَا إِلَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إِلَى قِلَّةٍ " .

وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَةِ بِنَقِيضِ الْمَقْصُودِ ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ ، حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ رَافِعٍ الطَّاطَرِيُّ ، حَدَّثَنِي أَبُو يَحْيَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَنْ فَرُّوخٍّ مَوْلَى عُثْمَانَ : أَنَّ عُمَرَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَرَأَى طَعَامًا مَنْثُورًا . فَقَالَ : مَا هَذَا الطَّعَامُ ؟ فَقَالُوا : طَعَامٌ جُلِبَ إِلَيْنَا . قَالَ : بَارَكَ اللَّهُ فِيهِ وَفِيمَنْ جَلَبَهُ . قِيلَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّهُ قَدِ احْتَكَرَ . قَالَ : وَمَنِ احْتَكَرَهُ ؟ قَالُوا : فَرُّوخٌ مَوْلَى عُثْمَانَ ، وَفُلَانٌ مَوْلَى عُمَرَ . فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا فَدَعَاهُمَا فَقَالَ : مَا حَمَلَكُمَا عَلَى احْتِكَارِ طَعَامِ الْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، نَشْتَرِي بِأَمْوَالِنَا وَنَبِيعُ ! ! فَقَالَ عُمَرُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْإِفْلَاسِ أَوْ بِجُذَامٍ " . فَقَالَ فَرُّوخٌ عِنْدَ ذَلِكَ : أُعَاهِدُ اللَّهَ وَأُعَاهِدُكَ أَلَّا أَعُودَ فِي طَعَامٍ أَبَدًا . وَأَمَّا مَوْلَى عُمَرَ فَقَالَ : إِنَّمَا نَشْتَرِي بِأَمْوَالِنَا وَنَبِيعُ . قَالَ أَبُو يَحْيَى : فَلَقَدْ رَأَيْتُ مَوْلَى عُمَرَ مَجْذُومًا .

وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْهَيْثَمِ بْنِ رَافِعٍ ، بِهِ . وَلَفْظُهُ : " مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ " .

وَقَوْلُهُ : ( وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ) قُرِئَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَالتَّخْفِيفِ ، مِنْ " رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو " وَ " أَرْبَاهُ يُرَبِّيهِ "[ ص: 714 ] أَيْ : كَثَّرَهُ وَنَمَّاهُ يُنَمِّيهِ . وَقُرِئَ : " وَيُرَبِّي " بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ ، مِنَ التَّرْبِيَةِ ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ ، سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مِنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطِّيبَ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ ، حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ " .

كَذَا رَوَاهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ . وَقَالَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ : وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ، فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ ، نَحْوَهُ .

وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الزَّكَاةِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ ، فَذَكَرَهُ . قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَرَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ، وَسُهَيْلٌ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

قُلْتُ : أَمَّا رِوَايَةُ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ : فَقَدْ تَفَرَّدَ الْبُخَارِيُّ بِذِكْرِهَا ، وَأَمَّا طَرِيقُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ : فَرَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ ، عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ بْنِ السَّرْحِ ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، بِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ سُهَيْلٍ فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ ، عَنْ قُتَيْبَةَ ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ سُهَيْلٍ ، بِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَقَالَ وَرْقَاءُ عَنِ ابْنِ دِينَارٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَقَدْ أَسْنَدَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ ، عَنِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ ، عَنِ الْأَصَمِّ ، عَنِ الْعَبَّاسِ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ ، عَنْ وَرْقَاءَ وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ الْيَشْكُرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ ، وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا الطَّيِّبُ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ ، فَيُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ

وَهَكَذَا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُسْلِمٌ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا ، عَنْ قُتَيْبَةَ ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ . وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَبِي الْحُبَابِ الْمَدَنِيِّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَذَكَرَهُ .

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيُّ ، [ ص: 715 ] حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ ، فَيُرَبِّيهَا لِأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ أَوْ فَلُوَّهُ حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ " . وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ : ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ) .

وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ ، عَنْ وَكِيعٍ ، وَهُوَ فِي تَفْسِيرِ وَكِيعٍ . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ ، عَنْ وَكِيعٍ ، بِهِ وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ ، بِهِ . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا ، عَنْ خَلَفِ بْنِ الْوَلِيدِ ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ ضَمْرَةَ وَعَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي نَضْرَةَ ، عَنِ الْقَاسِمِ ، بِهِ
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَصَدَّقَ مِنْ طَيِّبٍ ، يَقْبَلُهَا اللَّهُ مِنْهُ ، فَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ ، وَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ أَوْ فَصِيلَهُ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَصَدَّقُ بِاللُّقْمَةِ فَتَرْبُو فِي يَدِ اللَّهِ أَوْ قَالَ : فِي كَفِّ اللَّهِ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ ، فَتَصَدَّقُوا " .

وَهَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ . وَهَذَا طَرِيقٌ غَرِيبٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَلَكِنَّ لَفْظَهُ عَجِيبٌ ، وَالْمَحْفُوظُ مَا تَقَدَّمَ . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ :

حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ ، عَنْ ثَابِتٍ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ لَيُرَبِّي لِأَحَدِكُمُ التَّمْرَةَ وَاللُّقْمَةَ ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ ، حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ " . تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .

وَقَالَ الْبَزَّارُ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْمُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ، حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ عَمْرَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَصَدَّقُ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ ، فَيَتَلَقَّاهَا الرَّحْمَنُ بِيَدِهِ فَيُرَبِّيهَا ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ وَصِيفَهُ أَوْ قَالَ : فَصِيلَهُ " ثُمَّ قَالَ : لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرَةَ إِلَّا أَبُو أُوَيْسٍ .

وَقَوْلُهُ : ( وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) أَيْ : لَا يُحِبُّ كَفُورَ الْقَلْبِ أَثِيمَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُنَاسَبَةٍ فِي خَتْمِ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، وَهِيَ أَنَّ الْمُرَابِيَ لَا يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْحَلَالِ ، وَلَا يَكْتَفِي بِمَا شَرَعَ لَهُ مِنَ التَّكَسُّبِ الْمُبَاحِ ، فَهُوَ يَسْعَى فِي أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ، بِأَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ[ ص: 716 ] الْخَبِيثَةِ ، فَهُوَ جَحُودٌ لِمَا عَلَيْهِ مِنَ النِّعْمَةِ ، ظَلُومٌ آثِمٌ بِأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مَادِحًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِرَبِّهِمْ ، الْمُطِيعِينَ أَمْرَهُ ، الْمُؤَدِّينَ شُكْرَهُ ، الْمُحْسِنِينَ إِلَى خَلْقِهِ فِي إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، مُخْبِرًا عَمَّا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ ، وَأَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ التَّبِعَاتِ آمِنُونَ ، فَقَالَ : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )