حمل المصحف

Translate ترجم الي اي لغة تختارها داد7.

الجمعة، 10 فبراير 2017

22 من ص 172حتي ص 179

172
( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 262 ) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( 263 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( 264 )

يَمْدَحُ تَعَالَى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالصَّدَقَاتِ مَنًّا عَلَى مَنْ أَعْطَوْهُ ، فَلَا يَمُنُّونَ عَلَى أَحَدٍ ، وَلَا يَمُنُّونَ بِهِ لَا بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ .

وَقَوْلُهُ : ( وَلَا أَذًى ) أَيْ : لَا يَفْعَلُونَ مَعَ مَنْ أَحْسَنُوا إِلَيْهِ مَكْرُوهًا يُحْبِطُونَ بِهِ مَا سَلَفَ مِنَ الْإِحْسَانِ . ثُمَّ وَعَدَهُمْ تَعَالَى الْجَزَاءَ الْجَزِيلَ عَلَى ذَلِكَ ، فَقَالَ : ( لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) أَيْ : ثَوَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ، لَا عَلَى أَحَدٍ سِوَاهُ ( وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) أَيْ : فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ( وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) أَيْ:[عَلَى] مَا خَلَّفُوهُ مِنَ الْأَوْلَادِ وَمَا فَاتَهُمْ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا لَا يَأْسَفُونَ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) أَيْ : مِنْ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ وَدُعَاءٍ لِمُسْلِمٍ ( وَمَغْفِرَةٌ ) أَيْ : غَفَرَ عَنْ ظُلْمٍ قَوْلِيٍّ أَوْ فِعْلِيٍّ ( خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى )

قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُفَيْلٍ قَالَ : قَرَأْتُ عَلَى مَعْقِلِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ : بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَا مِنْ صَدَقَةٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَوْلٍ مَعْرُوفٍ ، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ : ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ) " ) وَاللَّهُ غَنِيٌّ ) [ أَيْ ] : عَنْ خَلْقِهِ .

( حَلِيمٌ ) أَيْ : يَحْلُمُ وَيَغْفِرُ وَيَصْفَحُ وَيَتَجَاوَزُ عَنْهُمْ .

وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمَنِّ فِي الصَّدَقَةِ ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُسْهِرٍ ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحَرِّ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : الْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ " .

وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ يَحْيَى ، أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمُ بْنُ خَارِجَةَ ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عُقْبَةَ ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ ، وَلَا مَنَّانٌ ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ ، وَلَا مُكَذِّبٌ بِقَدَرٍ "[ ص: 694 ]
وَرَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ ، مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ نَحْوَهُ .

ثُمَّ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ الْأَعْرَجِ ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى " .

وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ عَمِّهِ رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ ، عَنْ عَتَّابِ بْنِ بَشِيرٍ ، عَنْ خُصَيْفٍ الْجَزَرِيِّ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مُدْمِنُ خَمْرٍ ، وَلَا عَاقٌّ لِوَالِدَيْهِ ، وَلَا مَنَّانٌ " .

وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْمِنْهَالِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيِّ ، عَنْ عَتَّابٍ ، عَنْ خُصَيْفٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ، عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مَالِكٍ الْجَزَرِيِّ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَوْلُهُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، نَحْوَهُ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ) فَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَبْطُلُ بِمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى ، فَمَا يَفِي ثَوَابَ الصَّدَقَةَ بِخَطِيئَةِ الْمَنِّ وَالْأَذَى .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : ( كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ) أَيْ : لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ، كَمَا تَبْطُلُ صَدَقَةُ مَنْ رَاءَى بِهَا النَّاسَ ، فَأَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ مَدْحُ النَّاسِ لَهُ أَوْ شُهْرَتُهُ بِالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ ، لِيُشْكَرَ بَيْنَ النَّاسِ ، أَوْ يُقَالَ : إِنَّهُ كَرِيمٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، مَعَ قَطْعِ نَظَرِهِ عَنْ مُعَامَلَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ : ( وَلَا يُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ )

ثُمَّ ضَرَبَ تَعَالَى مَثَلَ ذَلِكَ الْمُرَائِي بِإِنْفَاقِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ : وَالَّذِي يُتْبِعُ نَفَقَتَهُ مَنًّا أَوْ أَذًى فَقَالَ : ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ ) وَهُوَ جَمْعُ صَفْوَانَةٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الصَّفْوَانُ يُسْتَعْمَلُ مُفْرَدًا أَيْضًا ، وَهُوَ الصَّفَا ، وَهُوَ الصَّخْرُ الْأَمْلَسُ ( عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ ) وَهُوَ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ ( فَتَرَكَهُ صَلْدًا ) أَيْ : فَتَرَكَ الْوَابِلُ ذَلِكَ الصَّفْوَانَ صَلْدًا ، أَيْ : أَمْلَسَ يَابِسًا ، أَيْ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ ، بَلْ قَدْ ذَهَبَ كُلُّهُ ، أَيْ : وَكَذَلِكَ أَعْمَالُ الْمُرَائِينَ تَذْهَبُ وَتَضْمَحِلُّ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُمْ أَعْمَالٌ فِيمَا يَرَى النَّاسُ كَالتُّرَابِ ; وَلِهَذَا قَالَ : ( لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) .

173
( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 265 )[ ص: 695 ]

وَهَذَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْفِقِينَ ( أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ) عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ ( وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) أَيْ : وَهُمْ مُتَحَقِّقُونَ مُثَبَّتُونَ أَنَّ اللَّهَ سَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ ، وَنَظِيرُ هَذَا فِي الْمَعْنَى ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَى صِحَّتِهِ : " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا . . . " أَيْ : يُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ شَرَعَهُ ، وَيَحْتَسِبُ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابَهُ .

قَالَ الشَّعْبِيُّ : ( وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) أَيْ : تَصْدِيقًا وَيَقِينًا . وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ ، وَأَبُو صَالِحٍ ، وَابْنُ زَيْدٍ . وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ : أَيْ : يَتَثَبَّتُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ صَدَقَاتِهِمْ .

وَقَوْلُهُ : ( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ ) أَيْ : كَمَثَلِ بُسْتَانٍ بِرَبْوَةٍ . وَهُوَ عِنْدُ الْجُمْهُورِ : الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ . وَزَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ : وَتَجْرِي فِيهِ الْأَنْهَارُ .

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : وَفِي الرَّبْوَةِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ هُنَّ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ : بِضَمِّ الرَّاءِ ، وَبِهَا قَرَأَ عَامَّةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ . وَفَتْحِهَا ، وَهِيَ قِرَاءَةُ بَعْضِ أَهْلِ الشَّامِ وَالْكُوفَةِ ، وَيُقَالُ : إِنَّهَا لُغَةُ تَمِيمٍ . وَكَسْرِ الرَّاءِ ، وَيُذْكَرُ أَنَّهَا قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ .

وَقَوْلُهُ : ( أَصَابَهَا وَابِلٌ ) وَهُوَ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، ( فَآتَتْ أُكُلَهَا ) أَيْ : ثَمَرَتَهَا ) ضِعْفَيْنِ ) أَيْ : بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْجِنَانِ . ( فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ) قَالَ الضَّحَّاكُ : هُوَ الرَّذَاذُ ، وَهُوَ اللَّيِّنُ مِنَ الْمَطَرِ . أَيْ : هَذِهِ الْجَنَّةُ بِهَذِهِ الرَّبْوَةِ لَا تَمْحُلُ أَبَدًا ; لِأَنَّهَا إِنْ لَمْ يَصُبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ كِفَايَتُهَا ، وَكَذَلِكَ عَمَلُ الْمُؤْمِنُ لَا يَبُورُ أَبَدًا ، بَلْ يَتَقَبَّلُهُ اللَّهُ وَيُكَثِّرُهُ وَيُنَمِّيهِ ، كُلُّ عَامِلٍ بِحَسْبِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ : ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) أَيْ : لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ عِبَادِهِ شَيْءٌ .

174
( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقْتُ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( 266 ) )

قَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ ، يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَسَمِعْتُ أَخَاهُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ : قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمًا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِيمَنْ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ : ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) ؟ قَالُوا : اللَّهُ أَعْلَمُ . فَغَضِبَ عُمَرُ فَقَالَ : قُولُوا : نَعْلَمُ أَوْ لَا نَعْلَمُ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ . فَقَالَ عُمَرُ : يَا ابْنَ أَخِي ، قُلْ وَلَا تُحَقِّرْ نَفْسَكَ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ . قَالَ عُمَرُ : أَيُّ عَمَلٍ ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لِعَمَلٍ . قَالَ عُمَرُ : لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ . ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي [ ص: 696 ] حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ .

ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيِّ ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، فَذَكَرَهُ . وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ .

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ كِفَايَةٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَتَبْيِينِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَثَلِ بِعَمَلِ مَنْ أَحْسَنَ الْعَمَلَ أَوَّلًا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ انْعَكَسَ سَيْرُهُ ، فَبَدَّلَ الْحَسَنَاتِ بِالسَّيِّئَاتِ ، عِيَاذًا بِالْلَّهِ مِنْ ذَلِكَ ، فَأَبْطَلَ بِعَمَلِهِ الثَّانِي مَا أَسْلَفَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الصَالِحٍ وَاحْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَوَّلِ فِي أَضْيَقِ الْأَحْوَالِ ، فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَخَانَهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : ( وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ ) وَهُوَ الرِّيحُ الشَّدِيدُ ( فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ) أَيْ : أَحْرَقَ ثِمَارَهَا وَأَبَادَ أَشْجَارَهَا ، فَأَيُّ حَالٍ يَكُونُ حَالُهُ .

وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : ضَرَبَ اللَّهُ لَهُ مَثَلًا حَسَنًا ، وَكُلُّ أَمْثَالِهِ حَسَنٌ ، قَالَ : ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ) يَقُولُ : ضَيَّعَهُ فِي شَيْبَتِهِ ( وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ ) وَوَلَدُهُ وَذُرِّيَّتُهُ ضِعَافٌ عِنْدَ آخَرِ عُمُرِهِ ، فَجَاءَهُ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَأَحْرَقَ بُسْتَانَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ قُوَّةً أَنْ يَغْرِسَ مِثْلَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ نَسْلِهِ خَيْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، إِذْ رُدَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، لَيْسَ لَهُ خَيْرٌ فَيُسْتَعْتَبُ ، كَمَا لَيْسَ لِهَذَا قُوَّةٌ فَيَغْرِسُ مِثْلَ بُسْتَانِهِ ، وَلَا يَجِدُهُ قَدَّمَ لِنَفْسِهِ خَيْرًا يَعُودُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَمْ يُغْنِ عَنْ هَذَا وَلَدُهُ ، وَحُرِمَ أَجْرَهُ عِنْدَ أَفْقَرِ مَا كَانَ إِلَيْهِ ، كَمَا حُرِمَ هَذَا جِنَّةَ اللَّهِ عِنْدَ أَفْقَرِ مَا كَانَ إِلَيْهَا عِنْدَ كِبَرِهِ وَضَعْفِ ذُرِّيَّتِهِ .

وَهَكَذَا ، رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : " اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَوْسَعَ رِزْقِكَ عَلَيَّ عِنْدَ كِبَرِ سِنِّي وَانْقِضَاءِ عُمُرِي " ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) أَيْ : تَعْتَبِرُونَ وَتَفْهَمُونَ الْأَمْثَالَ وَالْمَعَانِي ، وَتُنْزِلُونَهَا عَلَى الْمُرَادِ مِنْهَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) [ الْعَنْكَبُوتِ : 43 ] .

175
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 267 ) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( 268 ) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ( 269 )[ ص: 697 ]يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِنْفَاقِ وَالْمُرَادُ بِهِ الصَّدَقَةُ هَاهُنَا ; قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا . قَالَ مُجَاهِدٌ : يَعْنِي التِّجَارَةَ بِتَيْسِيرِهِ إِيَّاهَا لَهُمْ .
وَقَالَ عَلِيٌّ وَالسُّدِّيُّ : ( مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) يَعْنِي : الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ ، وَمِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ الَّتِي أَنْبَتَهَا لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَمَرَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ أَطِيبِ الْمَالِ وَأَجْوَدِهِ وَأَنْفَسِهِ ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّصَدُّقِ بِرُذَالَةِ الْمَالِ وَدَنِيِّهِ وَهُوَ خَبِيثُهُ فَإِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا ، وَلِهَذَا قَالَ : ( وَلَا تَيَمَّمُوا ) أَيْ : تَقْصِدُوا ( الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ ) أَيْ : لَوْ أُعْطِيتُمُوهُ مَا أَخَذْتُمُوهُ ، إِلَّا أَنْ تَتَغَاضَوْا فِيهِ ، فَاللَّهُ أَغْنَى عَنْهُ مِنْكُمْ ، فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ مَا تَكْرَهُونَ .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ : ( وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) أَيْ : لَا تَعْدِلُوا عَنِ الْمَالِ الْحَلَالِ ، وَتَقْصِدُوا إِلَى الْحَرَامِ ، فَتَجْعَلُوا نَفَقَتَكُمْ مِنْهُ .
وَيُذْكَرُ هَاهُنَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ ، حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنِ الصَّبَّاحِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ ، وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ " . قَالُوا : وَمَا بَوَائِقُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ؟ . قَالَ : " غَشْمُهُ وَظُلْمُهُ ، وَلَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ فَيُنْفِقَ مِنْهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ مِنْهُ ، وَلَا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ ، إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ " .
وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ; قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرٍو الْعَنْقَزِيُّ ، حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنْ أَسْبَاطٍ ، عَنِ السُّدِّيِّ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) الْآيَةَ . قَالَ : نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ ، كَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا كَانَ أَيَّامَ جِذَاذِ النَّخْلِ ، أَخْرَجَتْ مِنْ حِيطَانِهَا أَقْنَاءَ الْبُسْرِ ، فَعَلَّقُوهُ عَلَى حَبْلٍ بَيْنَ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَأْكُلُ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُ ، فَيَعْمِدُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِلَى الْحَشَفِ ، فَيُدْخِلُهُ مَعَ أَقْنَاءِ الْبُسْرِ ، يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ : ( وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ )
ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ، مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ ، عَنْ [ ص: 698 ] عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنِ الْبَرَاءِ ، بِنَحْوِهِ . وَقَالَ الْحَاكِمُ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ ، عَنْ إِسْرَائِيلَ ، عَنِ السُّدِّيِّ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، عَنِ الْبَرَاءِ : ( وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ) قَالَ : نَزَلَتْ فِينَا ، كُنَّا أَصْحَابَ نَخْلٍ ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي مِنْ نَخْلِهِ بِقَدْرِ كَثْرَتِهِ وَقِلَّتِهِ ، فَيَأْتِي الرَّجُلُ بِالْقِنْوِ فَيُعَلِّقُهُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَكَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا جَاعَ جَاءَ فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ ، فَيَسْقُطُ مِنْهُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ ، فَيَأْكُلُ ، وَكَانَ أُنَاسٌ مِمَّنْ لَا يَرْغَبُونَ فِي الْخَيْرِ يَأْتِي بِالْقِنْوِ فِيهِ الْحَشَفُ وَالشِّيصُ ، وَيَأْتِي بِالْقِنْوِ قَدِ انْكَسَرَ فَيُعَلِّقُهُ ، فَنَزَلَتْ : ( وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ) قَالَ : لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أُهْدِيَ لَهُ مِثْلَ مَا أَعْطَى مَا أَخَذَهُ إِلَّا عَلَى إِغْمَاضٍ وَحَيَاءٍ ، فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ يَجِيءُ الرَّجُلُ مِنَّا بِصَالِحِ مَا عِنْدَهُ .
وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مُوسَى الْعَبْسِيُّ عَنْ إِسْرَائِيلَ ، عَنِ السُّدِّيِّ وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ وَاسْمُهُ غَزْوَانُ عَنِ الْبَرَاءِ ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ . ثُمَّ قَالَ : وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لَوْنَيْنِ مِنَ التَّمْرِ : الْجُعْرُورِ وَلَوْنِ الْحُبَيْقِ . وَكَانَ النَّاسُ يَتَيَمَّمُونَ شِرَارَ ثِمَارِهِمْ ثُمَّ يُخْرِجُونَهَا فِي الصَّدَقَةِ ، فَنَزَلَتْ : ( وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ [ بِهِ ] . ثُمَّ قَالَ : أَسْنَدَهُ أَبُو الْوَلِيدِ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، وَلَفْظُهُ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْجُعْرُورِ وَلَوْنِ الْحُبَيْقِ أَنْ يُؤْخَذَا فِي الصَّدَقَةِ .
وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْجَلِيلِ بْنِ حُمَيْدٍ الْيَحْصُبِيُّ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ . وَلَمْ يَقُلْ : عَنْ أَبِيهِ ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ . وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ ، عَنْ عَبْدِ الْجَلِيلِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : ( وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) قَالَ : كَسْبُ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ خَبِيثًا ، وَلَكِنْ لَا يَصَّدَّقُ بِالْحَشَفِ ، وَالدِّرْهَمِ الزَّيْفِ ، وَمَا لَا خَيْرَ فِيهِ [ ص: 699 ]وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ حَمَّادٍ هُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنِ الْأَسْوَدِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَبٍّ فَلَمْ يَأْكُلْهُ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ . قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، نُطْعِمُهُ الْمَسَاكِينَ ؟ قَالَ : " لَا تُطْعِمُوهُمْ مِمَّا لَا تَأْكُلُونَ " .
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ عَفَّانَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، بِهِ . فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلَّا أُطْعِمَهُ الْمَسَاكِينَ ؟ قَالَ : " لَا تُطْعِمُوهُمْ مَا لَا تَأْكُلُونَ " .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : عَنِ السُّدِّيِّ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، عَنِ الْبَرَاءِ ( وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ) يَقُولُ : لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ ، فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ لَمْ يَأْخُذْهُ ; إِلَّا أَنْ يَرَى أَنَّهُ قَدْ نَقَصَهُ مِنْ حَقِّهِ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ) يَقُولُ : لَوْ كَانَ لَكُمْ عَلَى أَحَدٍ حَقٌّ ، فَجَاءَكُمْ بِحَقٍّ دُونَ حَقِّكُمْ لَمْ تَأْخُذُوهُ بِحِسَابِ الْجَيِّدِ حَتَّى تَنْقُصُوهُ . قَالَ : فَذَلِكَ قَوْلُهُ : ( إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ) فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ لِي مَا لَا تَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِكُمْ ، وَحَقِّي عَلَيْكُمْ مِنْ أَطْيَبِ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفَسِهِ ! !
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، وَابْنُ جَرِيرٍ ، وَزَادَ : وَهُوَ قَوْلُهُ : ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) [ آلِ عِمْرَانَ : 92 ] . ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ وَغَيْرِهِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ ذَلِكَ ، وَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ . قَوْلُهُ : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) أَيْ : وَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالصَّدَقَاتِ وَبِالطَّيِّبِ مِنْهَا فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِيُسَاوِيَ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ ، كَقَوْلِهِ : ( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ) [ الْحَجِّ : 37 ] وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ ، وَجَمِيعُ خَلْقِهِ فَقُرَاءُ إِلَيْهِ ، وَهُوَ وَاسِعُ الْفَضْلِ لَا يَنْفَدُ مَا لَدَيْهِ ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ وَاسِعُ الْعَطَاءِ ، كَرِيمٌ جَوَادٌ ، سَيَجْزِيهِ بِهَا وَيُضَاعِفُهَا لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً مَنْ يُقْرَضُ غَيْرُ عَدِيمٍ وَلَا ظَلُومٍ ، وَهُوَ الْحَمِيدُ ، أَيِ : الْمَحْمُودُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ .

وَقَوْلُهُ : ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ، حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنْ لِلشَّيْطَانِ لَلَمَّةً بِابْنِ آدَمَ ، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً ، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ . فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ مِنَ الشَّيْطَانِ " . ثُمَّ قَرَأَ : ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ) الْآيَةَ .

وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي كِتَابَيِ التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنَيْهِمَا جَمِيعًا ، عَنْ هَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ .[ ص: 700 ]وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ، عَنْ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ ، عَنْ هَنَّادٍ ، بِهِ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي الْأَحْوَصِ يَعْنِي سَلَّامَ بْنَ سُلَيْمٍ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ . كَذَا قَالَ . وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رُسْتَهُ ، عَنْ هَارُونَ الْفَرْوِيِّ ، عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، مَرْفُوعًا نَحْوَهُ .
وَلَكِنْ رَوَاهُ مِسْعَرٌ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَضْلَةَ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ . فَجَعَلَهُ مِنْ قَوْلِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ) أَيْ : يُخَوِّفُكُمُ الْفَقْرَ ، لِتُمْسِكُوا مَا بِأَيْدِيكُمْ فَلَا تُنْفِقُوهُ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ ، ( وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ) أَيْ : مَعَ نَهْيِهِ إِيَّاكُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ ، يَأْمُرُكُمْ بِالْمَعَاصِي وَالْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ وَمُخَالَفَةِ الْخَلَّاقِ ، قَالَ [ اللَّهُ ] تَعَالَى : ( وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ ) أَيْ : فِي مُقَابَلَةِ مَا أَمَرَكُمُ الشَّيْطَانُ بِالْفَحْشَاءِ ) وَفَضْلًا ) أَيْ : فِي مُقَابَلَةِ مَا خَوَّفَكُمُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْفَقْرِ ) وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )
وَقَوْلُهُ : ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ) قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : يَعْنِي الْمَعْرِفَةَ بِالْقُرْآنِ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ ، وَمُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ ، وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ ، وَأَمْثَالِهِ .

وَرَوَى جُوَيْبِرٌ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا : الْحِكْمَةُ : الْقُرْآنُ . يَعْنِي : تَفْسِيرُهُ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَإِنَّهُ [ قَدْ ] قَرَأَهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ . رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : يَعْنِي بِالْحِكْمَةِ : الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ .
وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ) لَيْسَتْ بِالنُّبُوَّةِ ، وَلَكِنَّهُ الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ وَالْقُرْآنُ .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : الْحِكْمَةُ خَشْيَةُ اللَّهِ ، فَإِنَّ خَشْيَةَ اللَّهِ رَأْسُ كُلِّ حِكْمَةٍ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ ، مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ زُفَرَ الْجُهَنِيِّ ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ الْأَسَدِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا : " رَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ اللَّهِ " .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : الْحِكْمَةُ : الْكِتَابُ وَالْفَهْمُ . وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : الْحِكْمَةُ : الْفَهْمُ . وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ : الْحِكْمَةُ : السُّنَّةُ . وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ ، عَنْ مَالِكٍ ، قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ : الْحِكْمَةُ : الْعَقْلُ . قَالَ مَالِكٌ : وَإِنَّهُ لَيَقَعُ فِي قَلْبِي أَنَّ الْحِكْمَةَ هُوَ الْفِقْهُ فِي دِينِ اللَّهِ ، وَأَمْرٌ يُدْخِلُهُ اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ ، وَمِمَّا يُبَيَّنُ ذَلِكَ ، أَنَّكَ تَجِدُ الرَّجُلَ عَاقِلًا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا ذَا نَظَرٍ فِيهَا ، وَتَجِدُ آخَرَ ضَعِيفًا فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ ، عَالِمًا بِأَمْرِ دِينِهِ ، بَصِيرًا بِهِ ، يُؤْتِيهِ اللَّهُ إِيَّاهُ وَيَحْرِمُهُ هَذَا ، فَالْحِكْمَةُ : الْفِقْهُ فِي دِينِ اللَّهِ .
وَقَالَ السُّدِّيُّ : الْحِكْمَةُ : النُّبُوَّةُ . [ ص: 701 ]وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحِكْمَةَ كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ لَا تَخْتَصُّ بِالنُّبُوَّةِ ، بَلْ هِيَ أَعَمُّ مِنْهَا ، وَأَعْلَاهَا النُّبُوَّةُ ، وَالرِّسَالَةُ أَخَصُّ ، وَلَكِنْ لِأَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ حَظٌّ مِنَ الْخَيْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ ، كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ : " مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ فَقَدْ أُدْرِجَتِ النُّبُوَّةُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ " . رَوَاهُ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي تَفْسِيرِهِ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمِّهِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَوْلُهُ .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَيَزِيدُ قَالَا : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ يَعْنِي ابْنَ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا " .

وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَمُسْلِمٌ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ ، بِهِ .

وَقَوْلُهُ : ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) أَيْ : وَمَا يَنْتَفِعُ بِالْمَوْعِظَةِ وَالتِّذْكَارِ إِلَّا مَنْ لَهُ لُبٌّ وَعَقْلٌ يَعِي بِهِ الْخِطَابَ وَمَعْنَى الْكَلَامِ .

176

( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ( 270 ) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 271 )

يُخْبِرُ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ الْعَامِلُونَ مِنَ الْخَيْرَاتِ مِنَ النَّفَقَاتِ وَالْمَنْذُورَاتِ وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ مُجَازَاتُهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ لِلْعَامِلِينَ لِذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ وَرَجَاءَ مَوْعُودِهِ . وَتَوَعَّدَ مَنْ لَا يَعْمَلُ بِطَاعَتِهِ ، بَلْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَكَذَّبَ خَبَرَهُ وَعَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ ، فَقَالَ : ( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ) أَيْ : يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُنْقِذُونَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَنِقْمَتِهِ .

وَقَوْلُهُ : ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) أَيْ : إِنْ أَظْهَرْتُمُوهَا فَنِعْمَ شَيْءٌ هِيَ .

وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ إِسْرَارَ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهَا ; لِأَنَّهُ أَبْعَدَ عَنِ الرِّيَاءِ ، إِلَّا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْإِظْهَارِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ ، مِنَ اقْتِدَاءِ النَّاسِ بِهِ ، فَيَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ " .

وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِسْرَارَ أَفْضَلُ ، لِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَلِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ [ ص: 702 ] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ : إِمَامٌ عَادِلٌ ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ فَقَالَ : إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ " .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ ، فَخَلَقَ الْجِبَالَ فَأَلْقَاهَا عَلَيْهَا فَاسْتَقَرَّتْ ، فَتَعَجَّبَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ خَلْقِ الْجِبَالِ ، فَقَالَتْ : يَا رَبِّ ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْجِبَالِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، الْحَدِيدُ . قَالَتْ : يَا رَبِّ ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، النَّارُ . قَالَتْ : يَا رَبِّ ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ النَّارِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، الْمَاءُ . قَالَتْ : يَا رَبِّ ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْمَاءِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، الرِّيحُ . قَالَتْ : يَا رَبِّ ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، ابْنُ آدَمَ يَتَصَدَّقُ بِيَمِينِهِ فَيُخْفِيهَا مِنْ شَمَالِهِ " .

وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي فَضْلِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : " سِرٌّ إِلَى فَقِيرٍ ، أَوْ جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ " . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ ، عَنِ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ فَذَكَرَهُ . وَزَادَ : ثُمَّ نَزَعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ : ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) الْآيَةَ .
وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ : " صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ ، عَزَّ وَجَلَّ " .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ زِيَادٍ الْمُحَارِبِيُّ مُؤَدِّبُ مُحَارِبٍ ، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُمَيْرٍ ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ : ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) قَالَ : أُنْزِلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَأَمَّا عُمَرُ فَجَاءَ بِنِصْفِ مَالِهِ حَتَّى دَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا خَلَّفْتَ وَرَاءَكَ لِأَهْلِكَ يَا عُمَرُ ؟ " . قَالَ : خَلَّفْتُ لَهُمْ نِصْفَ مَالِي ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَجَاءَ بِمَالِهِ كُلِّهِ يَكَادُ أَنْ يُخْفِيَهُ مِنْ نَفْسِهِ ، حَتَّى دَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا خَلَّفْتَ وَرَاءَكَ لِأَهْلِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ؟ " . فَقَالَ : عِدَةُ اللَّهِ وَعِدَةُ رَسُولِهِ . فَبَكَى عُمَرُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَالَ : بِأَبِي أَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ ، وَاللَّهِ مَا اسْتَبَقْنَا إِلَى بَابِ خَيْرٍ قَطُّ إِلَّا كُنْتَ سَابِقًا [ ص: 703 ] وَهَذَا الْحَدِيثُ مَرْوِيٌّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، عَنْ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهُ هَاهُنَا لِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ : إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ إِنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي أَنَّ إِخْفَاءَ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ، سَوَاءً كَانَتْ مَفْرُوضَةً أَوْ مَنْدُوبَةً . لَكِنْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ ، قَالَ : جَعَلَ اللَّهُ صَدَقَةَ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ تَفْضُلُ عَلَانِيَتَهَا ، فَقَالَ : بِسَبْعِينَ ضِعْفًا . وَجَعَلَ صَدَقَةَ الْفَرِيضَةِ عَلَانِيَتَهَا أَفْضَلَ مِنْ سِرِّهَا ، فَقَالَ : بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضِعْفًا .

وَقَوْلُهُ : ( وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ) أَيْ : بَدَلَ الصَّدَقَاتِ ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ سِرًّا يَحْصُلُ لَكُمُ الْخَيْرُ فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمُ السَّيِّئَاتِ ، وَقَدْ قُرِئَ : " وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ " بِالضَّمِّ ، وَقُرِئَ : " وَنُكَفِّرْ " بِالْجَزْمِ ، عَطْفًا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : ( فَنِعِمَّا هِيَ ) كَقَوْلِهِ : " فَأَصَّدَقَ وَأَكُونَ " ( وَأَكُنْ ) .

وَقَوْلُهُ ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) أَيْ : لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ، وَسَيَجْزِيكُمْ عَلَيْهِ [ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ ] .

177
( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ( 272 ) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( 273 ) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 274 ) )

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ ، أَخْبَرَنَا الْفِرْيَابِيُّ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَرْضَخُوا لِأَنْسَابِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسَأَلُوا ، فَرَخَّصَ لَهُمْ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ) .

وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو حُذَيْفَةَ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ ، وَأَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ ، وَأَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ بِهِ .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عَطِيَّةَ ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَعْنِي الدَّشْتَكِيَّ حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنْ أَبِيهِ ، حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ ، عَنْ سَعِيدِ [ ص: 704 ] بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِأَلَّا يُتَصَدَّقَ إِلَّا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ) إِلَى آخِرِهَا ، فَأَمَرَ بِالصَّدَقَةِ بَعْدَهَا عَلَى كُلِّ مَنْ سَأَلَكَ مِنْ كُلِّ دِينٍ . وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : ( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ) الْآيَةَ [ الْمُمْتَحِنَةِ : 8 ] حَدِيثَ أَسْمَاءَ بِنْتِ الصَّدِيقِ فِي ذَلِكَ [ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ] .

وَقَوْلُهُ : ( وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ ) كَقَوْلِهِ ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ) [ فُصِّلَتْ : 46 ، الْجَاثِيَةِ : 15 ] وَنَظَائِرُهَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ .

وَقَوْلُهُ : ( وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ) قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : نَفَقَةُ الْمُؤْمِنِ لِنَفْسِهِ ، وَلَا يُنْفِقُ الْمُؤْمِنُ إِذَا أَنْفَقَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ .

وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ : يَعْنِي إِذَا أَعْطَيْتَ لِوَجْهِ اللَّهِ ، فَلَا عَلَيْكَ مَا كَانَ عَمَلُهُ ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ إِذَا تَصَدَّقَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَلَا عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِمَنْ أَصَابَ : أَلِبَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ أَوْ مُسْتَحَقٍّ أَوْ غَيْرِهِ ، هُوَ مُثَابٌ عَلَى قَصْدِهِ ، وَمُسْتَنَدُ هَذَا تَمَامُ الْآيَةِ : ( وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ) وَالْحَدِيثُ الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَالَ رَجُلٌ : لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ : تُصُدِّقَ عَلَى زَانِيَةٍ ! فَقَالَ : اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ ، لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ : تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى غَنِيٍّ ! فَقَالَ : اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِيٍّ ، لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ : تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى سَارِقٍ ! فَقَالَ : اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ ، وَعَلَى غَنِيٍّ ، وَعَلَى سَارِقٍ ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ : أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ ; وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ بِهَا عَنْ زِنَاهَا ، وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ ، وَلَعَلَّ السَّارِقَ أَنْ يَسْتَعِفَّ بِهَا عَنْ سَرِقَتِهِ " .

وَقَوْلُهُ : ( لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) يَعْنِي : الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ قَدِ انْقَطَعُوا إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ ، وَسَكَنُوا الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ لَهُمْ سَبَبٌ يَرُدُّونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا يُغْنِيهِمْ وَ ( لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ ) يَعْنِي : سَفَرًا لِلتَّسَبُّبِ فِي طَلَبِ الْمَعَاشِ . وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ : هُوَ السَّفَرُ ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ ) [ النِّسَاءِ : 101 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : ( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) الْآيَةَ [ الْمُزَّمِّلِ : 20 ] .

وَقَوْلُهُ : ( يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ) أَيِ : الْجَاهِلُ بِأَمْرِهِمْ وَحَالِهِمْ يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ ، مِنْ تَعَفُّفِهِمْ فِي لِبَاسِهِمْ وَحَالِهِمْ وَمَقَالِهِمْ . وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْحَدِيثُ الْمُتَّفِقُ عَلَى صِحَّتِهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :[ ص: 705 ]قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ ، وَاللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ ، وَالْأُكْلَةُ وَالْأُكْلَتَانِ ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسُ شَيْئًا " . وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا .
وَقَوْلُهُ : ( تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ ) أَيْ : بِمَا يَظْهَرُ لِذَوِي الْأَلْبَابِ مِنْ صِفَاتِهِمْ ، كَمَا قَالَ [ اللَّهُ ] تَعَالَى : ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ ) [ الْفَتْحِ : 29 ] ، وَقَالَ : ( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) [ مُحَمَّدٍ : 30 ] . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ : " اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ " ، ثُمَّ قَرَأَ : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) [ الْحِجْرِ : 75 ] .

وَقَوْلُهُ : ( لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ) أَيْ : لَا يُلِحُّونَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَيُكَلِّفُونَ النَّاسَ مَا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ ، فَإِنَّ مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ عَنِ السُّؤَالِ ، فَقَدْ أَلْحَفَ فِي الْمَسْأَلَةِ ; قَالَ الْبُخَارِيُّ :

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ، حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ : أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيَّ قَالَا : سَمِعْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ ، وَلَا اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ ; اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ يَعْنِي قَوْلَهُ : ( لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ) .

وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَدِينِيِّ ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ وَحْدَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، بِهِ .

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ : أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ، أَخْبَرَنَا شَرَّيْكٌ وَهُوَ ابْنُ أَبِي نَمِرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ ، وَاللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ ; اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ :(لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، نَحْوَهُ .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ عَلَيْكُمْ ، فَتُطْعِمُونَهُ لُقْمَةً لُقْمَةً ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا " .

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي مُعْتَمِرٌ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَاتِكَ عَنْ صَالِحِ بْنِ سُوَيْدٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [ ص: 706 ] قَالَ : لَيْسَ الْمِسْكِينُ الطَّوَّافَ الَّذِي تَرُدُّهُ الْأُكْلَةُ وَالْأُكْلَتَانِ ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الْمُتَعَفِّفُ فِي بَيْتِهِ ، لَا يَسْأَلُ النَّاسُ شَيْئًا تُصِيبُهُ الْحَاجَةُ ; اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ : ( لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا )

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ الْحَنَفِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ ، أَنَّهُ قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ : أَلَا تَنْطَلِقَ فَتَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ كَمَا يَسْأَلُهُ النَّاسُ ؟ فَانْطَلَقْتُ أَسْأَلُهُ ، فَوَجَدْتُهُ قَائِمًا يَخْطُبُ ، وَهُوَ يَقُولُ : " وَمَنِ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنِ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْأَلِ النَّاسَ وَلَهُ عَدْلُ خَمْسِ أَوَاقٍ فَقَدْ سَأَلَ النَّاسَ إِلْحَافًا " . فَقُلْتُ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي : لَنَاقَةٌ لِي خَيْرٌ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ ، وَلِغُلَامِهِ نَاقَةٌ أُخْرَى فَهِيَ خَيْرٌ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسْأَلْ .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الرِّجَالِ ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَرَّحَتْنِي أُمِّي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَسْأَلُهُ ، فَأَتَيْتُهُ فَقَعَدْتُ ، قَالَ : فَاسْتَقْبَلَنِي فَقَالَ : " مَنِ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ ، وَمَنِ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنِ اسْتَكَفَّ كَفَاهُ اللَّهُ ، وَمَنْ سَأَلَ وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ فَقَدْ أَلْحَفَ " . قَالَ : فَقُلْتُ : نَاقَتِي الْيَاقُوتَةُ خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ . فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسْأَلْهُ .

وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ ، كِلَاهُمَا عَنْ قُتَيْبَةَ . زَادَ أَبُو دَاوُدَ : وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ بِإِسْنَادِهِ ، نَحْوَهُ .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا أَبُو الْجَمَاهِيرِ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الرِّجَالِ ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ سَأَلَ وَلَهُ قِيمَةُ وُقِيَّةٍ فَهُوَ مُلْحِفٌ " وَالْوُقِيَّةُ : أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا .

وَقَالَ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عَدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا " .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ ، جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ " . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا غِنَاهُ ؟ قَالَ : " خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، أَوْ حِسَابُهَا مِنَ الذَّهَبِ " .
وَقَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ ، مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ الْأَسَدِيِّ الْكُوفِيِّ . وَقَدْ تَرَكَهُ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، وَضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنْ جَرَّاءِ هَذَا الْحَدِيثِ .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ عَبْدُ اللَّهِ [ ص: 707 ] بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ ، حَدَّثَنِي أَبِي ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ : بَلَغَ الْحَارِثُ رَجُلًا كَانَ بِالشَّامِ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ بِهِ عَوَزٌ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ ، فَقَالَ : مَا وَجَدَ عَبْدُ اللَّهِ رَجُلًا هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنِّي ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أَرْبَعُونَ فَقَدْ أَلْحَفَ " وَلِآلِ أَبِي ذَرٍّ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعُونَ شَاةً وَمَاهِنَانِ . قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ : يَعْنِي خَادِمَيْنِ .
وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ سَابُورَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَهُوَ مُلْحِفٌ ، وَهُوَ مِثْلُ سَفِّ الْمَلَّةِ " يَعْنِي : الرَّمْلُ .

وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ ، عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ .
قَوْلُهُ : ( وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) أَيْ : لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ ، وَسَيَجْزِي عَلَيْهِ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ وَأَتَمَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، أَحْوَجَ مَا يَكُونُونَ إِلَيْهِ .

وَقَوْلُهُ : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) هَذَا مَدْحٌ مِنْهُ تَعَالَى لِلْمُنْفِقِينَ فِي سَبِيلِهِ ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ ، وَالْأَحْوَالِ مِنْ سِرٍّ وَجَهَارٍ ، حَتَّى إِنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَهْلِ تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ عَادَهُ مَرِيضًا عَامَ الْفَتْحِ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ : " وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا ازْدَدْتَ بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً ، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ " .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَبَهْزٍ قَالَا : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيَّ ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً يَحْتَسِبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً " أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ ، بِهِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرَيْبٍ الْمَلِيكِيَّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ] ) فِي أَصْحَابِ الْخَيْلِ "[ ص: 708 ]
وَقَالَ حَنَشٌ الصَّنْعَانِيُّ : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، قَالَ : هُمُ الَّذِينَ يَعْلِفُونَ الْخَيْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، ثُمَّ قَالَ : وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، وَمَكْحُولٍ .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ لِعَلِيٍّ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ ، فَأَنْفَقَ دِرْهَمًا لَيْلًا وَدِرْهَمًا نَهَارًا ، وَدِرْهَمًا سِرًّا ، وَدِرْهَمًا عَلَانِيَةً ، فَنَزَلَتْ : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً )

وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ . وَلَكِنْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ .

وَقَوْلُهُ : ( فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) أَيْ : يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا فَعَلُوا مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي الطَّاعَاتِ ( وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ .

178
( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 275 ) )

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْأَبْرَارَ الْمُؤَدِّينَ النَّفَقَاتِ ، الْمُخْرِجِينَ الزَّكَوَاتِ ، الْمُتَفَضِّلِينَ بِالْبِرِّ وَالصِّلَاتِ لِذَوِي الْحَاجَاتِ وَالْقَرَابَاتِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْآنَّاتِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ أَكَلَةِ الرِّبَا وَأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَنْوَاعِ الشُّبَهَاتِ ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ يَوْمَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَقِيَامِهِمْ مِنْهَا إِلَى بَعْثِهِمْ وَنَشُورِهِمْ ، فَقَالَ : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) أَيْ : لَا يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الْمَصْرُوعُ حَالَ صَرَعِهِ وَتَخَبُّطَ الشَّيْطَانِ لَهُ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقُومُ قِيَامًا مُنْكَرًا . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : آكِلُ الرِّبَا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يُخْنَقُ . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَالسُّدِّيِّ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ ، نَحْوُ ذَلِكَ .

وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) يَعْنِي : لَا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَكَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَابْنِ زَيْدٍ .

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ : " الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ كُلْثُومٍ ، حَدَّثَنَا أَبِي ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآكِلِ الرِّبَا : خُذْ سِلَاحَكَ لِلْحَرْبِ . وَقَرَأَ : ( لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) قَالَ : وَذَلِكَ حِينَ يَقُومُ مِنْ قَبْرِهِ[ ص: 709 ]

وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي الْإِسْرَاءِ ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ : أَنَّهُ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ لَيْلَتَئِذٍ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَجْوَافٌ مِثْلُ الْبُيُوتِ ، فَسَأَلَ عَنْهُمْ ، فَقِيلَ : هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مُطَوَّلًا .

وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِي الصَّلْتِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَتَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ بُطُونُهُمْ كَالْبُيُوتِ ، فِيهَا الْحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ . فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ : هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا " .

وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، عَنْ حَسَنٍ وَعَفَّانَ ، كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، بِهِ . وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ .

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ فِي حَدِيثِ الْمَنَامِ الطَّوِيلِ : " فَأَتَيْنَا عَلَى نَهْرٍ حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : أَحْمَرُ مِثْلُ الدَّمِ وَإِذَا فِي النَّهْرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً ، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ ، [ مَا يَسْبَحُ ] ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ الْحِجَارَةَ عِنْدَهُ فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا " وَذَكَرَ فِي تَفْسِيرِهِ : أَنَّهُ آكِلُ الرِّبَا .

وَقَوْلُهُ : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) أَيْ : إِنَّمَا جُوزُوا بِذَلِكَ لِاعْتِرَاضِهِمْ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ ، وَلَيْسَ هَذَا قِيَاسًا مِنْهُمْ لِلرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ ; لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْتَرِفُونَ بِمَشْرُوعِيَّةِ أَصْلِ الْبَيْعِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ لَقَالُوا : إِنَّمَا الرِّبَا مِثْلُ الْبَيْعِ ، وَإِنَّمَا قَالُوا : ( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) أَيْ : هُوَ نَظِيرُهُ ، فَلِمَ حَرَّمَ هَذَا وَأُبِيحَ هَذَا ؟ وَهَذَا اعْتِرَاضٌ مِنْهُمْ عَلَى الشَّرْعِ ، أَيْ : هَذَا مِثْلُ هَذَا ، وَقَدْ أَحَلَّ هَذَا وَحَرَّمَ هَذَا !

وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ رَدًّا عَلَيْهِمْ ، أَيْ : قَالُوا : مَا قَالُوهُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِتَفْرِيقِ اللَّهِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا حُكْمًا ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ، وَهُوَ الْعَالَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَمَصَالِحِهَا ، وَمَا يَنْفَعُ عِبَادَهُ فَيُبِيحُهُ لَهُمْ ، وَمَا يَضُرُّهُمْ فَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ ، وَهُوَ أَرْحَمُ بِهِمْ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا الطِّفْلِ ; وَلِهَذَا قَالَ : ( فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ) أَيْ : مَنْ بَلَغَهُ نَهْيُ اللَّهِ عَنِ الرِّبَا فَانْتَهَى حَالَ وُصُولِ الشَّرْعِ إِلَيْهِ . فَلَهُ مَا سَلَفَ مِنَ الْمُعَامَلَةِ ، لِقَوْلِهِ : ( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ) [ الْمَائِدَةِ : 95 ] وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : " وَكُلُّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيْ هَاتَيْنِ ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ " وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ الزِّيَادَاتِ الْمَأْخُوذَةِ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ ، بَلْ عَفَا عَمَّا سَلَفَ ، كَمَا قَالَ[ ص: 710 ] تَعَالَى : ( فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ )

قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ : ( فَلَهُ مَا سَلَفَ ) فَإِنَّهُ مَا كَانَ أَكَلَ مِنَ الرِّبَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : قُرِئَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنْ أُمِّ يُونُسَ يَعْنِي امْرَأَتَهُ الْعَالِيَةَ بَنْتَ أَيْفَعَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَهَا أَمُّ مُحَبَّةَ أَمُّ وَلَدٍ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، أَتَعْرِفِينَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . قَالَتْ : فَإِنِّي بِعْتُهُ عَبْدًا إِلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةٍ ، فَاحْتَاجَ إِلَى ثَمَنِهِ ، فَاشْتَرَيْتُهُ قَبْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ بِسِتِّمِائَةٍ . فَقَالَتْ : بِئْسَ مَا شَرَيْتِ ! وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ ! أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ يَتُبْ . قَالَتْ : فَقُلْتُ : أَرَأَيْتِ إِنْ تَرَكَتُ الْمِائَتَيْنِ وَأَخَذَتُ السِّتَّمِائَةِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، ( فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ ) .

وَهَذَا الْأَثَرُ مَشْهُورٌ ، وَهُوَ دَلِيلٌ لِمَنْ حَرَّمَ مَسْأَلَةَ الْعِينَةِ ، مَعَ مَا جَاءَ فِيهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُقَرِّرَةِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : ( وَمَنْ عَادَ ) أَيْ : إِلَى الرِّبَا فَفَعَلَهُ بَعْدَ بُلُوغِ نَهْيِ اللَّهِ لَهُ عَنْهُ ، فَقَدِ اسْتَوْجَبَ الْعُقُوبَةَ ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ ; وَلِهَذَا قَالَ : ( فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )

وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ الْمَكِّيُّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ لَمْ يَذْرِ الْمُخَابَرَةَ ، فَلْيَأْذَنْ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ " .

وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ خُثَيْمٍ ، وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ .

وَإِنَّمَا حُرِّمَتِ الْمُخَابَرَةُ وَهِيَ : الْمُزَارَعَةُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ ، وَالْمُزَابَنَةُ وَهِيَ : اشْتِرَاءُ الرُّطَبِ فِي رُؤُوسِ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، وَالْمُحَاقَلَةُ وَهِيَ : اشْتِرَاءُ الْحَبِّ فِي سَنْبُلِهِ فِي الْحَقْلِ بِالْحَبِّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِنَّمَا حُرِّمَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَمَا شَاكَلَهَا ، حَسْمًا لِمَادَّةِ الرِّبَا ; لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ التَّسَاوِي بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ قَبْلَ الْجَفَافِ . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : الْجَهْلُ بِالْمُمَاثِلَةِ كَحَقِيقَةِ الْمُفَاضَلَةِ . وَمِنْ هَذَا حَرَّمُوا أَشْيَاءَ بِمَا فَهِمُوا مِنْ تَضْيِيقِ الْمَسَالِكِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الرِّبَا ، وَالْوَسَائِلِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ ، وَتَفَاوُتِ نَظَرِهِمْ بِحَسَبِ مَا وَهَبَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مَنِ الْعِلْمِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : ( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) [ يُوسُفَ : 76 ] .

وَبَابُ الرِّبَا مِنْ أَشْكَلِ الْأَبْوَابِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَقَدْ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ : الْجَدُّ ، وَالْكَلَالَةُ ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا ، يَعْنِي بِذَلِكَ بَعْضَ الْمَسَائِلِ الَّتِي فِيهَا شَائِبَةُ الرِّبَا . وَالشَّرِيعَةُ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ كُلَّ [ ص: 711 ] حَرَامٍ فَالْوَسِيلَةُ إِلَيْهِ مِثْلُهُ ; لِأَنَّ مَا أَفْضَى إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ ، كَمَا أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبَهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ " .

وَفِي السُّنَنِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ " . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : " الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ وَتَرَدَّدَتْ فِيهِ النَّفْسُ ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ " . وَفِي رِوَايَةٍ : " اسْتَفْتِ قَلْبَكَ ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ " .

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : عَنْ عَاصِمٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : آخِرُ مَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةُ الرِّبَا . رَوَاهُ [ الْبُخَارِيُّ ] عَنْ قَبِيصَةَ ، عَنْهُ .

وَقَالَ أَحْمَدُ ، عَنْ يَحْيَى ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ : مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ آيَةُ الرِّبَا ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبِضَ قَبْلَ أَنْ يُفَسِّرَهَا لَنَا ، فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ .رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ .

وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ هَيَّاجِ بْنِ بَسْطَامٍ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : خَطَبَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ : إِنِّي لَعَلِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ تَصْلُحُ لَكُمْ وَآمُرُكُمْ بِأَشْيَاءَ لَا تَصْلُحُ لَكُمْ ، وَإِنَّ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا آيَةَ الرِّبَا ، وَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لَنَا ، فَدَعُوا مَا يُرِيبُكُمْ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكُمْ .

وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَاجَهْ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الصَّيْرَفِيُّ ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ زُبَيْدٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مَسْرُوقٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الرِّبَا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابًا " .

وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ، مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ ، بِإِسْنَادِ مِثْلِهِ ، وَزَادَ : " أَيْسَرُهَا أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ " . وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ [ ص: 712 ]

وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا ، أَيْسَرُهَا أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ " .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي خَيْرَةَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ مُنْذُ نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسِينَ سَنَةً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَأْكُلُونَ فِيهِ الرِّبَا " قَالَ : قِيلَ لَهُ : النَّاسُ كُلُّهُمْ ؟ قَالَ : " مَنْ لَمْ يَأْكُلْهُ مِنْهُمْ نَالَهُ مِنْ غُبَارِهِ "وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي خَيْرَةَ عَنِ الْحَسَنِ ، بِهِ .

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ، وَهُوَ تَحْرِيمُ الْوَسَائِلِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ ، عَنْ مَسْرُوقٍ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَقَرَأَهُنَّ ، فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ .

وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ سِوَى التِّرْمِذِيِّ ، مِنْ طُرُقٍ ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ وَهَكَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ، عِنْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ : فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ ، ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ . قَالَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْأَئِمَّةِ : لَمَّا حَرَّمَ الرِّبَا وَوَسَائِلَهُ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ تِجَارَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، كَمَا قَالَ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ : " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا " .

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا ، عِنْدَ لَعْنِ الْمُحَلِّلِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : ( حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ) [ الْبَقَرَةِ : 230 ] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ ، وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ " . قَالُوا : وَمَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ وَيَكْتُبُ إِلَّا إِذَا أُظْهِرَ فِي صُورَةِ عَقْدٍ شَرْعِيٍّ وَيَكُونُ دَاخِلُهُ فَاسِدًا ، فَالِاعْتِبَارُ بِمَعْنَاهُ لَا بِصُورَتِهِ ; لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ ، وَفِي الصَّحِيحِ : " إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ " .

وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ ، الْعَلَّامَةُ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ كِتَابًا فِي " إِبْطَالِ التَّحْلِيلِ " تَضَمَّنَ النَّهْيَ عَنْ تَعَاطِي الْوَسَائِلِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى كُلِّ بَاطِلٍ ، وَقَدْ كَفَى فِي ذَلِكَ وَشَفَى ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ .

179

( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ( 276 ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 277 )[ ص: 713 ]

يُخْبِرُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَمْحَقُ الرِّبَا ، أَيْ : يُذْهِبُهُ ، إِمَّا بِأَنْ يُذْهِبَهُ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ ، أَوْ يَحْرِمَهُ بَرَكَةَ مَالِهِ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ ، بَلْ يُعَذِّبُهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَيُعَاقِبُهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ) [ الْمَائِدَةِ : 100 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : ( وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) [ الْأَنْفَالِ : 37 ] ، وَقَالَ : ( وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ ) [ الْآيَةَ ] [ الرُّومِ : 39 ] .

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : فِي قَوْلِهِ : ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ) وَهَذَا نَظِيرُ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : " الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِلَى قُلٍّ " .

وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ ، فَقَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ [ قَالَ ] حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ [ بْنِ عَمِيلَةَ الْفَزَارِيِّ ] عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ تَصِيرُ إِلَى قُلٍّ " وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ جَعْفَرٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْنٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ ، عَنْ إِسْرَائِيلَ ، عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَمِيلَةَ الْفَزَارِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَا أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنَ الرِّبَا إِلَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إِلَى قِلَّةٍ " .

وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَةِ بِنَقِيضِ الْمَقْصُودِ ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ ، حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ رَافِعٍ الطَّاطَرِيُّ ، حَدَّثَنِي أَبُو يَحْيَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَنْ فَرُّوخٍّ مَوْلَى عُثْمَانَ : أَنَّ عُمَرَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَرَأَى طَعَامًا مَنْثُورًا . فَقَالَ : مَا هَذَا الطَّعَامُ ؟ فَقَالُوا : طَعَامٌ جُلِبَ إِلَيْنَا . قَالَ : بَارَكَ اللَّهُ فِيهِ وَفِيمَنْ جَلَبَهُ . قِيلَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّهُ قَدِ احْتَكَرَ . قَالَ : وَمَنِ احْتَكَرَهُ ؟ قَالُوا : فَرُّوخٌ مَوْلَى عُثْمَانَ ، وَفُلَانٌ مَوْلَى عُمَرَ . فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا فَدَعَاهُمَا فَقَالَ : مَا حَمَلَكُمَا عَلَى احْتِكَارِ طَعَامِ الْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، نَشْتَرِي بِأَمْوَالِنَا وَنَبِيعُ ! ! فَقَالَ عُمَرُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْإِفْلَاسِ أَوْ بِجُذَامٍ " . فَقَالَ فَرُّوخٌ عِنْدَ ذَلِكَ : أُعَاهِدُ اللَّهَ وَأُعَاهِدُكَ أَلَّا أَعُودَ فِي طَعَامٍ أَبَدًا . وَأَمَّا مَوْلَى عُمَرَ فَقَالَ : إِنَّمَا نَشْتَرِي بِأَمْوَالِنَا وَنَبِيعُ . قَالَ أَبُو يَحْيَى : فَلَقَدْ رَأَيْتُ مَوْلَى عُمَرَ مَجْذُومًا .

وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْهَيْثَمِ بْنِ رَافِعٍ ، بِهِ . وَلَفْظُهُ : " مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ " .

وَقَوْلُهُ : ( وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ) قُرِئَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَالتَّخْفِيفِ ، مِنْ " رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو " وَ " أَرْبَاهُ يُرَبِّيهِ "[ ص: 714 ] أَيْ : كَثَّرَهُ وَنَمَّاهُ يُنَمِّيهِ . وَقُرِئَ : " وَيُرَبِّي " بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ ، مِنَ التَّرْبِيَةِ ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ ، سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مِنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطِّيبَ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ ، حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ " .

كَذَا رَوَاهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ . وَقَالَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ : وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ، فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ ، نَحْوَهُ .

وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الزَّكَاةِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ ، فَذَكَرَهُ . قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَرَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ، وَسُهَيْلٌ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

قُلْتُ : أَمَّا رِوَايَةُ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ : فَقَدْ تَفَرَّدَ الْبُخَارِيُّ بِذِكْرِهَا ، وَأَمَّا طَرِيقُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ : فَرَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ ، عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ بْنِ السَّرْحِ ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، بِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ سُهَيْلٍ فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ ، عَنْ قُتَيْبَةَ ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ سُهَيْلٍ ، بِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَقَالَ وَرْقَاءُ عَنِ ابْنِ دِينَارٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَقَدْ أَسْنَدَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ ، عَنِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ ، عَنِ الْأَصَمِّ ، عَنِ الْعَبَّاسِ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ ، عَنْ وَرْقَاءَ وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ الْيَشْكُرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ ، وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا الطَّيِّبُ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ ، فَيُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ

وَهَكَذَا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُسْلِمٌ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا ، عَنْ قُتَيْبَةَ ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ . وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَبِي الْحُبَابِ الْمَدَنِيِّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَذَكَرَهُ .

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيُّ ، [ ص: 715 ] حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ ، فَيُرَبِّيهَا لِأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ أَوْ فَلُوَّهُ حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ " . وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ : ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ) .

وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ ، عَنْ وَكِيعٍ ، وَهُوَ فِي تَفْسِيرِ وَكِيعٍ . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ ، عَنْ وَكِيعٍ ، بِهِ وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ ، بِهِ . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا ، عَنْ خَلَفِ بْنِ الْوَلِيدِ ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ ضَمْرَةَ وَعَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي نَضْرَةَ ، عَنِ الْقَاسِمِ ، بِهِ
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَصَدَّقَ مِنْ طَيِّبٍ ، يَقْبَلُهَا اللَّهُ مِنْهُ ، فَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ ، وَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ أَوْ فَصِيلَهُ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَصَدَّقُ بِاللُّقْمَةِ فَتَرْبُو فِي يَدِ اللَّهِ أَوْ قَالَ : فِي كَفِّ اللَّهِ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ ، فَتَصَدَّقُوا " .

وَهَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ . وَهَذَا طَرِيقٌ غَرِيبٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَلَكِنَّ لَفْظَهُ عَجِيبٌ ، وَالْمَحْفُوظُ مَا تَقَدَّمَ . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ :

حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ ، عَنْ ثَابِتٍ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ لَيُرَبِّي لِأَحَدِكُمُ التَّمْرَةَ وَاللُّقْمَةَ ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ ، حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ " . تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .

وَقَالَ الْبَزَّارُ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْمُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ، حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ عَمْرَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَصَدَّقُ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ ، فَيَتَلَقَّاهَا الرَّحْمَنُ بِيَدِهِ فَيُرَبِّيهَا ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ وَصِيفَهُ أَوْ قَالَ : فَصِيلَهُ " ثُمَّ قَالَ : لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرَةَ إِلَّا أَبُو أُوَيْسٍ .

وَقَوْلُهُ : ( وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) أَيْ : لَا يُحِبُّ كَفُورَ الْقَلْبِ أَثِيمَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُنَاسَبَةٍ فِي خَتْمِ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، وَهِيَ أَنَّ الْمُرَابِيَ لَا يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْحَلَالِ ، وَلَا يَكْتَفِي بِمَا شَرَعَ لَهُ مِنَ التَّكَسُّبِ الْمُبَاحِ ، فَهُوَ يَسْعَى فِي أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ، بِأَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ[ ص: 716 ] الْخَبِيثَةِ ، فَهُوَ جَحُودٌ لِمَا عَلَيْهِ مِنَ النِّعْمَةِ ، ظَلُومٌ آثِمٌ بِأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مَادِحًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِرَبِّهِمْ ، الْمُطِيعِينَ أَمْرَهُ ، الْمُؤَدِّينَ شُكْرَهُ ، الْمُحْسِنِينَ إِلَى خَلْقِهِ فِي إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، مُخْبِرًا عَمَّا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ ، وَأَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ التَّبِعَاتِ آمِنُونَ ، فَقَالَ : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق