حمل المصحف

Translate ترجم الي اي لغة تختارها داد7.

الخميس، 9 فبراير 2017

12 من(أم تريدون أن تسألوا رسولكم..)الي قوله تعالي (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات..)

الآتي ان شاء الله  13 
72
(أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ( 108 )

نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة ، عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها ، كما قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ) [ المائدة : 101 ] أي : وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم ، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه ; فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة . ولهذا جاء في الصحيح : " إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم ، فحرم من أجل مسألته " . ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن تكلم تكلم بأمر عظيم ، وإن سكت سكت على مثل ذلك ; فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها . ثم أنزل الله حكم الملاعنة . ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال وفي صحيح مسلم : " ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " . وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا . ثم قال ، عليه السلام : " لا ، ولو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت لما استطعتم " . ثم قال : " ذروني ما تركتكم " الحديث . وهكذا قال أنس بن مالك : نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع .

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا أبو كريب ، حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي سنان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب ، قال : إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فأتهيب منه ، وإن كنا لنتمنى الأعراب .

وقال البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا ابن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ما سألوه إلا عن ثنتي[ص: 381 ]عشرة مسألة،كلها في القرآن: ^(يسألونك عن الخمر والميسر)[ البقرة : 219}و 

^(يسألونك عن الشهر الحرام) [البقرة : 217 ] ، 
(ويسألونك عن اليتامى )[ البقرة : 220 ] يعني : هذا وأشباهه
^وقوله تعالى :(أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) أي : بل تريدون . أو هي على بابها في الاستفهام ، وهو إنكاري ، وهو يعم المؤمنين والكافرين ، فإنه ، عليه السلام ، رسول الله إلى الجميع ، 
^كما قال تعالى:(يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ) [ النساء : 153 ] .

^قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد [ بن جبير ]عن ابن عباس ، قال : قال رافع بن حريملة أو وهب بن زيد : ^يا محمد ، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرأه ، ^وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك . فأنزل الله من قولهم:( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل )

وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ) قال : قال رجل : يا رسول الله ، لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم لا نبغيها - ثلاثا - ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل ، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها ، فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا ، وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة . فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل ".قال:( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) [النساء :110] ، وقال :"الصلوات الخمس من الجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن " . وقال : " من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ، وإن عملها كتبت سيئة واحدة ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة ، وإن عملها كتبت له عشر أمثالها ، ولا يهلك على الله إلا هالك " . فأنزل الله : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل )

وقال مجاهد : (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) أن يريهم الله جهرة ، قال : سألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا . قال : " نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم " ، فأبوا ورجعوا .

وعن السدي وقتادة نحو هذا ، والله أعلم .

والمراد أن الله ذم من سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء ، على وجه التعنت والاقتراح ، كما سألت بنو إسرائيل موسى ، عليه السلام ، تعنتا وتكذيبا وعنادا ، قال الله تعالى : ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان ) أي : [ ص: 382 ] من يشتر الكفر بالإيمان ( فقد ضل سواء السبيل ) أي : فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم والانقياد لهم ، إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها ، على وجه التعنت والكفر ، كما قال تعالى : ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ) [ إبراهيم : 28 ، 29 ] . وقال أبو العالية : يتبدل الشدة بالرخاء .
73
( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير ( 109 ) وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير ( 110 )


يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طرائق الكفار من أهل الكتاب ، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين ، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم . ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال ، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح . ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة . ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه ، كما قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا ، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم ، وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا ، فأنزل الله فيهما : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم ) الآية .

وقال عبد الرزاق ، عن معمر عن الزهري ، في قوله تعالى : ( ود كثير من أهل الكتاب ) قال : هو كعب بن الأشرف .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه : أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا ، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم . وفيه أنزل الله : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم ) إلى قوله :(فاعفوا واصفحوا)

وقال الضحاك ، عن ابن عباس : أن رسولا أميا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل والآيات ، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم ، ولكنهم جحدوا ذلك كفرا وحسدا وبغيا ; ولذلك قال [ ص: 383 ] الله تعالى : ( كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) يقول : من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئا ، ولكن الحسد حملهم على الجحود ، فعيرهم ووبخهم ولامهم أشد الملامة ، وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل عليهم وما أنزل من قبلهم ، بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم

وقال الربيع بن أنس : ( من عند أنفسهم ) من قبل أنفسهم . وقال أبو العالية : ( من بعد ما تبين لهم الحق ) من بعد ما تبين [ لهم ] أن محمدا رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، فكفروا به حسدا وبغيا ; إذ كان من غيرهم . وكذا قال قتادة والربيع والسدي .

وقوله : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) مثل قوله تعالى : ( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) [ آل عمران : 186 ].قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) نسخ ذلك قوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) وقوله : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) إلى قوله : ( وهم صاغرون ) [ التوبة : 29 ] فنسخ هذا عفوه عن المشركين . وكذا قال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي : إنها منسوخة بآية السيف ،ويرشد إلى ذلك أيضا قوله :( حتى يأتي الله بأمره)

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير : أن أسامة بن زيد أخبره ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب ، كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير ) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول من العفو ما أمره الله به ، حتى أذن الله فيهم بقتل ، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش .

وهذا إسناده صحيح ، ولم أره في شيء من الكتب الستة [ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما] .

وقوله تعالى : ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ) يحث تعالى على الاشتغال بما ينفعهم وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة ، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، [ ص: 384 ] حتى يمكن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ( يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ) [غافر : 52] ، ولهذا قال تعالى : ( إن الله بما تعملون بصير ) يعني : أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل ، ولا يضيع لديه ، سواء كان خيرا أو شرا ، فإنه سيجازي كل عامل بعمله .

وقال أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى : ( إن الله بما تعملون بصير ) وهذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين ، أنهم مهما فعلوا من خير أو شر ، سرا أو علانية ، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء ، فيجزيهم بالإحسان خيرا ، وبالإساءة مثلها . وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر ، فإن فيه وعدا ووعيدا وأمرا وزجرا . وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مدخرا لهم عنده ، حتى يثيبهم عليه ، كما قال : ( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ) وليحذروا معصيته .

قال : وأما قوله : ( بصير ) فإنه مبصر صرف إلى " بصير " كما صرف مبدع إلى " بديع " ، ومؤلم إلى " أليم " ، والله أعلم

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا ابن بكير ، حدثني ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر في هذه الآية ( سميع بصير ) يقول : بكل شيء بصير .
74
( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ( 111 ) بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 112 ) وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ( 113 )


يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه ، حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها ، كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة أنهم قالوا : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) [ المائدة : 18 ] . فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم ، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك ، وكما تقدم من دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ، ثم ينتقلون إلى الجنة . ورد عليهم تعالى في ذلك ، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة [ ص: 385 ] ولا بينة ، فقال ( تلك أمانيهم )

وقال أبو العالية : أماني تمنوها على الله بغير حق . وكذا قال قتادة والربيع بن أنس .

ثم قال : ( قل ) أي : يا محمد ، ) هاتوا برهانكم )

وقال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس : حجتكم . وقال قتادة : بينتكم على ذلك . ( إن كنتم صادقين ) كما تدعونه .

ثم قال تعالى : ( بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن ) أي : من أخلص العمل لله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن )الآية[آل عمران:20] .

وقال أبو العالية والربيع : ( بلى من أسلم وجهه لله ) يقول : من أخلص لله .

وقال سعيد بن جبير : ( بلى من أسلم ) أخلص ، ( وجهه ) قال : دينه ، ( وهو محسن ) أي : متبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم . فإن للعمل المتقبل شرطين ، أحدهما : أن يكون خالصا لله وحده والآخر : أن يكون صوابا موافقا للشريعة . فمتى كان خالصا ولم يكن صوابا لم يتقبل ; ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " . رواه مسلم من حديث عائشة ، عنه ، عليه السلام .

فعمل الرهبان ومن شابههم وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله فإنه لا يتقبل منهم ، حتى يكون ذلك متابعا للرسول [ محمد ] صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ، وفيهم وأمثالهم ، قال الله تعالى : ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) [ الفرقان : 23 ] ، وقال تعالى : ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ) [ النور : 39 ] .

وروي عن أمير المؤمنين عمر أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي
وأما إن كان العمل موافقا للشريعة في الصورة الظاهرة ، ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضا مردود على فاعله وهذا حال المنافقين والمرائين ، كما قال تعالى : ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ) [ النساء : 142 ] ، وقال تعالى : ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون ) [ الماعون : 4 ، 7 ] ، ولهذا قال تعالى : ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) [ الكهف : 110 ] . وقال في هذه الآية الكريمة : ( بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن )

وقوله : ( فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور ، وآمنهم مما يخافونه من المحذور ف ( لا خوف عليهم ) فيما يستقبلونه ، ( ولا هم يحزنون ) على ما مضى مما يتركونه ، كما قال سعيد بن جبير : ف ( لا خوف عليهم ) يعني : في الآخرة ( ولا هم يحزنون ) [ ص: 386 ] [ يعني : لا يحزنون ] للموت .

وقوله تعالى : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب ) يبين به تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم . كما قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتتهم أحبار يهود ، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رافع بن حريملة ما أنتم على شيء ، وكفر بعيسى وبالإنجيل . وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود : ما أنتم على شيء . وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة . فأنزل الله في ذلك من قولهما ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب ) قال : إن كلا يتلو في كتابه تصديق من كفر به ، أي : يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة ، فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى ، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى ، وما جاء من التوراة من عند الله ، وكل يكفر بما في يد صاحبه .

وقال مجاهد في تفسير هذه الآية : قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء .

وقال قتادة : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء ) قال : بلى ، قد كانت أوائل النصارى على شيء ، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا . ( وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) قال : بلى قد كانت أوائل اليهود على شيء ، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا .

وعنه رواية أخرى كقول أبي العالية ، والربيع بن أنس في تفسير هذه الآية : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وهذا القول يقتضي أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى . ولكن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوه ، مع علمهم بخلاف ذلك ; ولهذا قال تعالى : ( وهم يتلون الكتاب ) أي : وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل ، كل منهما قد كانت مشروعة في وقت ، ولكن تجاحدوا فيما بينهم عنادا وكفرا ومقابلة للفاسد بالفاسد ، كما تقدم عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة في الرواية الأولى عنه في تفسيرها ، والله أعلم

وقوله تعالى : ( كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) يبين بهذا جهل اليهود والنصارى فيما تقابلوا من القول ، وهذا من باب الإيماء والإشارة . وقد اختلف فيما عنى بقوله تعالى : ( الذين لا يعلمون )[ ص: 387 ]

فقال الربيع بن أنس وقتادة : ( كذلك قال الذين لا يعلمون ) قالا وقالت النصارى مثل قول اليهود وقيلهم . وقال ابن جريج : قلت لعطاء : من هؤلاء الذين لا يعلمون ؟ قال : أمم كانت قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة والإنجيل . وقال السدي : ( كذلك قال الذين لا يعلمون ) فهم : العرب ، قالوا : ليس محمد على شيء .

واختار أبو جعفر بن جرير أنها عامة تصلح للجميع ، وليس ثم دليل قاطع يعين واحدا من هذه الأقوال ، فالحمل على الجميع أولى ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) أي : أنه تعالى يجمع بينهم يوم المعاد ، ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة . وهذا كقوله تعالى في سورة الحج : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ) [ الحج : 17 ] ، وكما قال تعالى : ( قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم ) [ سبأ : 26 ] .

75
( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ( 114 )


اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها على قولين :

أحدهما : ما رواه العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس في قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) قال : هم النصارى . وقال مجاهد : هم النصارى ، كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( وسعى في خرابها ) هو بختنصر وأصحابه ، خرب بيت المقدس ، وأعانه على ذلك النصارى .

وقال سعيد ، عن قتادة : قال : أولئك أعداء الله النصارى ، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس .

وقال السدي : كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس حتى خربه ، وأمر به أن تطرح فيه الجيف ، وإنما أعانه الروم على خرابه من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا . وروي نحوه عن الحسن البصري .

القول الثاني : ما رواه ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب قال : قال ابن [ ص: 388 ] زيد في قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) قال : هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، وبين أن يدخلوا مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم ، وقال لهم : ما كان أحد يصد عن هذا البيت ، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده . فقالوا : لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق .

وفي قوله : ( وسعى في خرابها ) قال : إذ قطعوا من يعمرها بذكره ويأتيها للحج والعمرة .

وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن سلمة قال : قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن قريشا منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام ، فأنزل الله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه )

ثم اختار ابن جرير القول الأول ، واحتج بأن قريشا لم تسع في خراب الكعبة . وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس .

قلت : الذي يظهر والله أعلم القول الثاني ، كما قاله ابن زيد ، وروي عن ابن عباس ; لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس ، كأن دينهم أقوم من دين اليهود ، وكانوا أقرب منهم ، ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولا إذ ذاك ; لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . وأيضا فإنه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى ، شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة ، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام ، وأما اعتماده على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة ، فأي خراب أعظم مما فعلوا ؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم ، كما قال تعالى : ( وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ) [ الأنفال : 34 ] ، وقال تعالى : ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) [ التوبة : 17 ، 18 ] ، وقال تعالى : ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ) [ الفتح : 25 ] ، فقال تعالى : ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله ) [ التوبة : 18 ] ، فإذا كان من هو كذلك مطرودا منها مصدودا عنها ، فأي خراب لها أعظم من ذلك ؟ وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط ، إنما عمارتها بذكر الله فيها وإقامة شرعه فيها ، ورفعها عن الدنس والشرك .[ ص: 389 ]

وقوله تعالى : ( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) هذا خبر معناه الطلب ، أي لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية . ولهذا لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى : " ألا لا يحجن بعد العام مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان ، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته " . وهذا كان تصديقا وعملا بقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) الآية [ التوبة : 28 ] ، وقال بعضهم : ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال التهيب ، وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم ، فضلا أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها . والمعنى : ما كان الحق والواجب إلا ذلك ، لولا ظلم الكفرة وغيرهم .

وقيل : إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد ، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفا ، يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم . وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام ، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان ، وأن تجلى اليهود والنصارى منها ، ولله الحمد والمنة . وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة [ المباركة ] التي بعث [ الله ] فيها رسوله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا صلوات الله وسلامه عليه . وهذا هو الخزي لهم في الدنيا ; لأن الجزاء من جنس العمل . فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام ، صدوا عنه ، وكما أجلوهم من مكة أجلوا منها ( ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) على ما انتهكوا من حرمة البيت ، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله ، والدعاء إلى غير الله عنده والطواف به عريا ، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله .

وأما من فسر بيت المقدس ، فقال كعب الأحبار : إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل عليه : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) الآية ، فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفا .وقال السدي : فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه ، أو قد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها .[ ص: 390 ]

وقال قتادة : لا يدخلون المساجد إلا مسارقة .

قلت : وهذا لا ينفي أن يكون داخلا في معنى عموم الآية فإن النصارى لما ظلموا بيت المقدس ، بامتهان الصخرة التي كانت يصلي إليها اليهود ، عوقبوا شرعا وقدرا بالذلة فيه ، إلا في أحيان من الدهر امتحن بهم بيت المقدس وكذلك اليهود لما عصوا الله فيه أيضا أعظم من عصيان النصارى كانت عقوبتهم أعظم والله أعلم .

وفسر هؤلاء الخزي من الدنيا ، بخروج المهدي عند السدي ، وعكرمة ، ووائل بن داود . وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون .

والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله ، وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة كما قال الإمام أحمد : حدثنا الهيثم بن خارجة ، حدثنا محمد بن أيوب بن ميسرة بن حلبس سمعت أبي يحدث ، عن بسر بن أرطاة ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو : " اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة " .

وهذا حديث حسن ، وليس في شيء من الكتب الستة ، وليس لصحابيه وهو بسر بن أرطاة ويقال : ابن أبي أرطاة حديث سواه ، وسوى [ حديث ] " لا تقطع الأيدي في الغزو " .

76
( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ( 115 ) 

وهذا والله أعلم فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين أخرجوا من مكة وفارقوا مسجدهم ومصلاهم ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه . فلما قدم المدينة وجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ، أو سبعة عشر شهرا ، ثم صرفه الله إلى الكعبة بعد ، ولهذا يقول تعالى : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله )

قال أبو عبيد القاسم بن سلام ، في كتاب الناسخ والمنسوخ : أخبرنا حجاج بن محمد ، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا والله أعلم شأن القبلة : قال تعالى : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) فاستقبل [ ص: 391 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس ، وترك البيت العتيق ، ثم صرفه إلى بيته العتيق ونسخها ، فقال : ( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : كان أول ما نسخ من القرآن القبلة . وذلك أن رسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس . ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم ، فكان يدعو وينظر إلى السماء ، فأنزل الله : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء [ فلنولينك قبلة ترضاها ] ) إلى قوله : ( فولوا وجوهكم شطره ) فارتاب من ذلك اليهود ، وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، فأنزل الله : ( قل لله المشرق والمغرب [ يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ] ) وقال : ( فأينما تولوا فثم وجه الله )

وقال عكرمة عن ابن عباس : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) قال : قبلة الله أينما توجهت شرقا أو غربا . وقال مجاهد : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) [ قال:قبلة الله] حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها : الكعبة .

وقال ابن أبي حاتم بعد روايته الأثر المتقدم ، عن ابن عباس ، في نسخ القبلة ، عن عطاء ، عنه : وروي عن أبي العالية ، والحسن ، وعطاء الخراساني ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي ، وزيد بن أسلم ، نحو ذلك .

وقال ابن جرير : وقال آخرون : بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة ، وإنما أنزلها تعالى ليعلم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة ، حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب ; لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية ; لأن له تعالى المشارق والمغارب ، وأنه لا يخلو منه مكان ، كما قال تعالى : ( ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ) [ المجادلة : 7 ] قالوا : ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم التوجه إلى المسجد الحرام .

هكذا قال ، وفي قوله : " وإنه تعالى لا يخلو منه مكان " : إن أراد علمه تعالى فصحيح ; فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات ، وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه ، تعالى الله [ ص: 392 ] عن ذلك علوا كبيرا .

قال ابن جرير : وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذنا من الله أن يصلي التطوع حيث توجه من شرق أو غرب ، في مسيره في سفره ، وفي حال المسايفة وشدة الخوف .

حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن إدريس ، حدثنا عبد الملك هو ابن أبي سليمان عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر : أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته . ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ، ويتأول هذه الآية : ( فأينما تولوا فثم وجه الله )

ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه ، من طرق ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، به . وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة ، من غير ذكر الآية .

وفي صحيح البخاري من حديث نافع ، عن ابن عمر : أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها . ثم قال : فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم ، وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها .

قال نافع : ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم .

مسألة : ولم يفرق الشافعي في المشهور عنه ، بين سفر المسافة وسفر العدوى ، فالجميع عنه يجوز التطوع فيه على الراحلة ، وهو قول أبي حنيفة خلافا لمالك وجماعته ، واختار أبو يوسف وأبو سعيد الإصطخري ، التطوع على الدابة في المصر ، وحكاه أبو يوسف عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، واختاره أبو جعفر الطبري ، حتى للماشي أيضا .

قال ابن جرير : وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في قوم عميت عليهم القبلة ، فلم يعرفوا شطرها ، فصلوا على أنحاء مختلفة ، فقال الله لي المشارق والمغارب فأين وليتم وجوهكم فهنالك وجهي ، وهو قبلتكم ، فيعلمكم بذلك أن صلاتكم ماضية .

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا أبو الربيع السمان ، عن عاصم بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، عن أبيه ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة ، فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا يصلي فيه . فلما [ أن ] أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة . فقلنا : يا رسول الله ، لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة ؟ فأنزل الله تعالى : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ) الآية .[ ص: 393 ]

ثم رواه عن سفيان بن وكيع ، عن أبيه ، عن أبي الربيع السمان ، بنحوه .

ورواه الترمذي ، عن محمود بن غيلان ، عن وكيع . وابن ماجه ، عن يحيى بن حكيم ، عن أبي داود ، عن أبي الربيع السمان .

ورواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن محمد بن الصباح ، عن سعيد بن سليمان ، عن أبي الربيع السمان واسمه أشعث بن سعيد البصري وهو ضعيف الحديث .

وقال الترمذي : هذا حديث حسن . ليس إسناده بذاك ، ولا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان ، وأشعث يضعف في الحديث .

قلت : وشيخه عاصم أيضا ضعيف .

قال البخاري : منكر الحديث . وقال ابن معين : ضعيف لا يحتج به . وقال ابن حبان : متروك ، والله أعلم .

وقد روي من طرق أخرى ، عن جابر .

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية : حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل ، حدثنا الحسن بن علي بن شبيب ، حدثني أحمد بن عبيد الله بن الحسن ، قال : وجدت في كتاب أبي : حدثنا عبد الملك العرزمي ، عن عطاء ، عن جابر ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها ، فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة ، فقالت طائفة منا : قد عرفنا القبلة ، هي هاهنا قبل السماك . فصلوا وخطوا خطوطا ، فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة . فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي صلى الله عليه وسلم ، فسكت ، وأنزل الله تعالى : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله )

ثم رواه من حديث محمد بن عبيد الله العرزمي ، عن عطاء ، عن جابر ، به .

وقال الدارقطني : قرئ على عبد الله بن عبد العزيز وأنا أسمع حدثكم داود بن عمرو ، حدثنا محمد بن يزيد الواسطي ، عن محمد بن سالم ، عن عطاء ، عن جابر ، قال : كنا مع رسول الله [ ص:394] صلى الله عليه وسلم في مسير فأصابنا غيم ، فتحيرنا فاختلفنا في القبلة ، فصلى كل منا على حدة ، وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا ، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمرنا بالإعادة ، وقال : " قد أجزأت صلاتكم " .

ثم قال الدارقطني : كذا قال : عن محمد بن سالم ، وقال غيره : عن محمد بن عبد الله العرزمي ، عن عطاء ، وهما ضعيفان .

ثم رواه ابن مردويه أيضا من حديث الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأخذتهم ضبابة ، فلم يهتدوا إلى القبلة ، فصلوا لغير القبلة . ثم استبان لهم بعد طلوع الشمس أنهم صلوا لغير القبلة . فلما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوه ، فأنزل الله عز وجل ، هذه الآية : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله )

وهذه الأسانيد فيها ضعف ، ولعله يشد بعضها بعضا . وأما إعادة الصلاة لمن تبين له خطؤه ففيها قولان للعلماء ، وهذه دلائل على عدم القضاء ، والله أعلم .

قال ابن جرير : وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي ، كما حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا هشام بن معاذ حدثني أبي ، عن قتادة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أخا لكم قد مات فصلوا عليه " . قالوا : نصلي على رجل ليس بمسلم ؟ قال : فنزلت : ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله ) [ آل عمران : 199 ] قال قتادة : فقالوا : فإنه كان لا يصلي إلى القبلة . فأنزل الله : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) .

وهذا غريب والله أعلم .

وقد قيل : إنه كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يبلغه الناسخ إلى الكعبة ، كما حكاه القرطبي عن قتادة ، وذكر القرطبي أنه لما مات صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بذلك من ذهب إلى الصلاة على الغائب ، قال : وهذا خاص عند أصحابنا من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه عليه السلام ، شاهده حين صلى عليه طويت له الأرض . الثاني : أنه لما لم يكن عنده من يصلي عليه صلى عليه ، واختاره ابن العربي ، قال القرطبي : ويبعد أن يكون ملك مسلم ليس عنده أحد من قومه على دينه ، وقد أجاب ابن العربي عن هذا لعلهم لم يكن عندهم شرعية الصلاة على الميت . وهذا جواب جيد . الثالث : أنه عليه الصلاة والسلام إنما صلى عليه ليكون ذلك كالتأليف لبقية الملوك،والله أعلم.[ص: 395 ]

وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث أبي معشر ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق " .

وله مناسبة هاهنا ، وقد أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي معشر ، واسمه نجيح بن عبد الرحمن السندي المدني ، به " ما بين المشرق والمغرب قبلة " .

وقال الترمذي : وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة . وتكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه ، ثم قال الترمذي : حدثني الحسن بن [ أبي ] بكر المروزي ، حدثنا المعلى بن منصور ، حدثنا عبد الله بن جعفر المخزومي ، عن عثمان بن محمد الأخنسي ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما بين المشرق والمغرب قبلة " .

ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .

وحكى عن البخاري أنه قال : هذا أقوى من حديث أبي معشر وأصح . قال الترمذي : وقد روي عن غير واحد من الصحابة : ما بين المشرق والمغرب قبلة منهم عمر بن الخطاب ، وعلي ، وابن عباس .

وقال ابن عمر : إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك ، فما بينهما قبلة ، إذا استقبلت القبلة .

ثم قال ابن مردويه : حدثنا علي بن أحمد بن عبد الرحمن ، حدثنا يعقوب بن يونس مولى بني هاشم ، حدثنا شعيب بن أيوب ، حدثنا ابن نمير ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " ما بين المشرق والمغرب قبلة " .

وقد رواه الدارقطني والبيهقي وقال المشهور : عن ابن عمر ، عن عمر ، قوله .

قال ابن جرير : ويحتمل : فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم ، كما حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قال مجاهد : لما نزلت : ( ادعوني أستجب لكم ) [ غافر : 60 ] قالوا : إلى أين ؟ فنزلت : ( فأينما تولوا فثم وجه الله )[ ص: 396 ]

قال ابن جرير : ويعني قوله : ( إن الله واسع عليم ) يسع خلقه كلهم بالكفاية ، والإفضال والجود .

وأما قوله : ( عليم ) فإنه يعني : عليم بأعمالهم ، ما يغيب عنه منها شيء ، ولا يعزب عن علمه ، بل هو بجميعها عليم .
77
( وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون ( 116 ) بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ( 117 ) 

اشتملت هذه الآية الكريمة ، والتي تليها على الرد على النصارى عليهم لعائن الله وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب ، ممن جعل الملائكة بنات الله ، فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم : إن لله ولدا . فقال تعالى : ( سبحانه ) أي : تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا ( بل له ما في السماوات والأرض ) أي : ليس الأمر كما افتروا ، وإنما له ملك السماوات والأرض ، وهو المتصرف فيهم ، وهو خالقهم ورازقهم ، ومقدرهم ومسخرهم ، ومسيرهم ومصرفهم ، كما يشاء ، والجميع عبيد له وملك له ، فكيف يكون له ولد منهم ، والولد إنما يكون متولدا من شيئين متناسبين ، وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ، ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له ، فكيف يكون له ولد ! كما قال تعالى : ( بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ) [ الأنعام : 101 ] وقال تعالى : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ) [ مريم : 88 - 95 ] وقال تعالى : ( قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) [ سورة الإخلاص ]
فقرر تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه السيد العظيم ، الذي لا نظير له ولا شبيه له ، وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة ، فكيف يكون له منها ولد ! ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية من البقرة : أخبرنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن عبد الله بن أبي حسين ، حدثنا نافع بن جبير هو ابن مطعم عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأما شتمه إياي فقوله : لي ولد . فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا " [ ص: 397 ]انفرد به البخاري من هذا الوجه .

وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، حدثنا إسحاق بن محمد الفروي ، حدثنا مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله عز وجل : كذبني ابن آدم ولم ينبغ له أن يكذبني ، وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني ، أما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني . وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته . وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا . وأنا الله الأحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد " .

وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ; إنهم يجعلون له ولدا ، وهو يرزقهم ويعافيهم " .

وقوله : ( كل له قانتون ) قال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أسباط ، عن مطرف ، عن عطية ، عن ابن عباس ، قال : ( قانتين ) مصلين .

وقال عكرمة وأبو مالك : ( كل له قانتون ) مقرون له بالعبودية . وقال سعيد بن جبير : ( كل له قانتون ) يقول : الإخلاص . وقال الربيع بن أنس : يقول كل له قائم يوم القيامة . وقال السدي : ( كل له قانتون ) يقول : له مطيعون يوم القيامة .

وقال خصيف ، عن مجاهد : ( كل له قانتون ) قال : مطيعون ، كن إنسانا فكان ، وقال : كن حمارا فكان .

وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( كل له قانتون ) مطيعون ، يقول : طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره .

وهذا القول عن مجاهد وهو اختيار ابن جرير يجمع الأقوال كلها ، وهو أن القنوت : هو الطاعة والاستكانة إلى الله ، وذلك شرعي وقدري ، كما قال تعالى : ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ) [ الرعد : 15 ] .

وقد ورد حديث فيه بيان القنوت في القرآن ما هو المراد به ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث : أن دراجا أبا السمح حدثه ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو [ ص: 398 ] الطاعة " .

وكذا رواه الإمام أحمد ، عن حسن بن موسى ، عن ابن لهيعة ، عن دراج بإسناده ، مثله .

ولكن هذا الإسناد ضعيف لا يعتمد عليه . ورفع هذا الحديث منكر ، وقد يكون من كلام الصحابي أو من دونه ، والله أعلم . وكثيرا ما يأتي بهذا الإسناد تفاسير فيها نكارة ، فلا يغتر بها ، فإن السند ضعيف ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( بديع السماوات والأرض ) أي : خالقهما على غير مثال سبق ، قال مجاهد والسدي : وهو مقتضى اللغة ، ومنه يقال للشيء المحدث : بدعة . كما جاء في الصحيح لمسلم : " فإن كل محدثة بدعة [ وكل بدعة ضلالة ] " . والبدعة على قسمين : تارة تكون بدعة شرعية ، كقوله : فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة . وتارة تكون بدعة لغوية ، كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم : نعمت البدعة هذه .

وقال ابن جرير : وبديع السماوات والأرض : مبدعهما . وإنما هو مفعل فصرف إلى فعيل ، كما صرف المؤلم إلى الأليم ، والمسمع إلى السميع . ومعنى المبدع : المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد .

قال : ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعا ; لإحداثه فيه ما لم يسبق إليه غيره ، وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم ، فإن العرب تسميه مبتدعا . ومن ذلك قول أعشى ثعلبة ، في مدح هوذة بن علي الحنفي :

يدعى إلى قول سادات الرجال إذا أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا أي : يحدث ما شاء .

قال ابن جرير : فمعنى الكلام : فسبحان الله أنى يكون لله ولد ، وهو مالك ما في السماوات والأرض ، تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية ، وتقر له بالطاعة ، وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه . وهذا إعلام من الله عباده أن ممن يشهد له بذلك المسيح ، الذي أضافوا إلى الله بنوته ، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال ، هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته .[ ص: 399 ]

وهذا من ابن جرير ، رحمه الله ، كلام جيد وعبارة صحيحة .

وقوله تعالى : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه ، وأنه إذا قدر أمرا وأراد كونه ، فإنما يقول له : كن . أي : مرة واحدة ، فيكون ، أي : فيوجد على وفق ما أراد ، كما قال تعالى : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) [ يس : 82 ] وقال تعالى : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) [ النحل : 40 ] وقال تعالى : ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر )[القمر:50] ، وقال الشاعر :
إذا ما أراد الله أمرا فإنما يقول له كن قولة فيكون


ونبه تعالى بذلك أيضا على أن خلق عيسى بكلمة : كن ، فكان كما أمره الله ، قال [ الله ] تعالى : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) [ آل عمران : 59 ] .
78
( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون ( 118 ) 


قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، إن كنت رسولا من الله كما تقول ، فقل لله فليكلمنا حتى نسمع كلامه . فأنزل الله في ذلك من قوله : ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية )

وقال مجاهد [ في قوله ] ) وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ) قال : النصارى تقوله .

وهو اختيار ابن جرير ، قال : لأن السياق فيهم . وفي ذلك نظر .

[ وحكى القرطبي ( لولا يكلمنا الله ) أي : لو يخاطبنا بنبوتك يا محمد ، قلت : وظاهر السياق أعم ، والله أعلم ] .

وقال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي في تفسير هذه الآية : هذا قول كفار العرب ( كذلك قال الذين من قبلهم [ مثل قولهم ] ) قالوا : هم اليهود والنصارى . ويؤيد هذا القول ، وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب ، قوله تعالى : ( وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) [ الأنعام : 123 ] .[ ص: 400 ]

وقوله تعالى : ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) [ الإسراء : 90 ، 93 ] ، وقوله تعالى : ( وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا ) [ الفرقان : 21 ] ، وقوله : ( بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة)[ المدثر : 52 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به ، إنما هو الكفر والمعاندة ، كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم ، كما قال تعالى : ( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ) [ النساء : 153 ] وقال تعالى : ( وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) [ البقرة : 55 ] .

وقوله : ( تشابهت قلوبهم ) أي : أشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو ، كما قال تعالى : ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون ) [ الذاريات : 52 ، 53 ] .

وقوله : ( قد بينا الآيات لقوم يوقنون ) أي : قد وضحنا الدلالات على صدق الرسل بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى ، لمن أيقن وصدق واتبع الرسل ، وفهم ما جاءوا به عن الله تبارك وتعالى . وأما من ختم الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة فأولئك الذين قال الله تعالى فيهم : ( إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم) [ يونس : 96 ، 97 ] . 

79.
[ قوله تعالى] ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ( 119 ) 

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الرحمن بن صالح ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله الفزاري عن شيبان النحوي ، أخبرني قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أنزلت علي : ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ) قال : " بشيرا بالجنة ، ونذيرا من النار "
وقوله : ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) قراءة أكثرهم ) ولا تسأل ) بضم التاء على الخبر . وفي قراءة أبي بن كعب : " وما تسأل " وفي قراءة ابن مسعود : " ولن تسأل عن أصحاب الجحيم "[ ص: 401 ]

نقلهما ابن جرير ، أي : لا نسألك عن كفر من كفر بك ، ( فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) [ الرعد : 40 ] وكقوله تعالى : ( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر ) الآية [ الغاشية : 21 ، 22 ] وكقوله تعالى : ( نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) [ ق : 45 ] وأشباه ذلك من الآيات .

وقرأ آخرون " ولا تسأل عن أصحاب الجحيم " بفتح التاء على النهي ، أي : لا تسأل عن حالهم ، كما قال عبد الرزاق :

أخبرنا الثوري ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليت شعري ما فعل أبواي ، ليت شعري ما فعل أبواي ، ليت شعري ما فعل أبواي ؟ " . فنزلت : ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) فما ذكرهما حتى توفاه الله ، عز وجل .

ورواه ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن وكيع ، عن موسى بن عبيدة ، [ وقد تكلموا فيه عن محمد بن كعب ] بمثله . وقد حكاه القرطبي عن ابن عباس ومحمد بن كعب قال القرطبي : وهذا كما يقال : لا تسأل عن فلان ; أي : قد بلغ فوق ما تحسب ، وقد ذكرنا في التذكرة أن الله أحيا له أبويه حتى آمنا ، وأجبنا عن قوله : ( إن أبي وأباك في النار ) . ( قلت ) : والحديث المروي في حياة أبويه عليه السلام ليس في شيء من الكتب الستة ولا غيرها ، وإسناده ضعيف والله أعلم .

ثم قال [ ابن جرير ] وحدثني القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، أخبرني داود بن أبي عاصم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم : " أين أبواي ؟ " . فنزلت : ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم )
وهذا مرسل كالذي قبله . وقد رد ابن جرير هذا القول المروي عن محمد بن كعب [ القرظي ] وغيره في ذلك ، لاستحالة الشك من الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر أبويه . واختار القراءة الأولى . وهذا الذي سلكه هاهنا فيه نظر ، لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه قبل أن يعلم أمرهما ، فلما علم ذلك تبرأ منهما ، وأخبر عنهما أنهما من أهل النار [ كما ثبت ذلك في الصحيح ] ولهذا أشباه كثيرة ونظائر ، ولا يلزم ما ذكر ابن جرير . والله أعلم .

وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا فليح بن سليمان ، عن هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة . فقال : أجل ، والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، وحرزا للأميين ، وأنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، لا فظ ولا غليظ ولا [ ص: 402 ] سخاب في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله . فيفتح به أعينا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبا غلفا .

انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه في البيوع عن محمد بن سنان ، عن فليح ، به . وقال : تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة ، عن هلال . وقال سعيد : عن هلال ، عن عطاء ، عن عبد الله بن سلام . ورواه في التفسير عن عبد الله ، عن عبد العزيز بن أبي سلمة ، عن هلال ، عن عطاء ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، به . فذكر نحوه ، فعبد الله هذا هو ابن صالح ، كما صرح به في كتاب الأدب . وزعم أبو مسعود الدمشقي أنه عبد الله بن رجاء .

وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من البقرة ، عن أحمد بن الحسن بن أيوب ، عن محمد بن أحمد بن البراء ، عن المعافى بن سليمان ، عن فليح ، به . وزاد : قال عطاء : ثم لقيت كعب الأحبار ، فسألته فما اختلفا في حرف ، إلا أن كعبا قال بلغته : أعينا عمومى ، وآذانا صمومى ، وقلوبا غلوفا 

80( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير ( 120 ) الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ( 121 ) )

قال ابن جرير : يعني بقوله جل ثناؤه : ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدا ، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم ، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق
وقوله تعالى : ( قل إن هدى الله هو الهدى ) أي : قل يا محمد : إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى ، يعني : هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل .

قال قتادة في قوله : ( قل إن هدى الله هو الهدى ) قال : خصومة علمها الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، يخاصمون بها أهل الضلالة . قال قتادة : وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا تزال طائفة من أمتي يقتتلون على الحق ظاهرين ، لا يضرهم من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله " .

قلت : هذا الحديث مخرج في الصحيح عن عبد الله بن عمرو[ ص: 403 ]

( ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير ) فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى ، بعد ما علموا من القرآن والسنة ، عياذا بالله من ذلك ، فإن الخطاب مع الرسول ، والأمر لأمته .

[ وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله : ( حتى تتبع ملتهم ) حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة كقوله تعالى : ( لكم دينكم ولي دين ) [ الكافرون : 6 ] ، فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفار ، وكل منهم يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم لا ; لأنهم كلهم ملة واحدة ، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه . وقال في الرواية الأخرى كقول مالك : إنه لا يتوارث أهل ملتين شتى ، كما جاء في الحديث ، والله أعلم ] .

وقوله تعالى : ( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ) قال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : هم اليهود والنصارى . وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، واختاره ابن جرير .

وقال : سعيد عن قتادة : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، وعبد الله بن عمران الأصبهاني ، قالا حدثنا يحيى بن يمان ، حدثنا أسامة بن زيد ، عن أبيه ، عن عمر بن الخطاب ( يتلونه حق تلاوته ) قال : إذا مر بذكر الجنة سأل الله الجنة ، وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار .

وقال أبو العالية : قال ابن مسعود : والذي نفسي بيده ، إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ، ولا يحرف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله .

وكذا رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ومنصور بن المعتمر ، عن ابن مسعود .

وقال السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : يحلون حلاله ويحرمون حرامه ، ولا يحرفونه عن مواضعه .

قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن مسعود نحو ذلك .

وقال الحسن البصري : يعملون بمحكمه ، ويؤمنون بمتشابهه ، يكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا ابن أبي زائدة ، أخبرنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : ( يتلونه حق تلاوته ) قال : يتبعونه حق اتباعه ، ثم قرأ : ( والقمر إذا تلاها ) [ الشمس : 2 ] ، يقول : اتبعها . قال : وروي عن عكرمة ، وعطاء ، ومجاهد ، وأبي رزين ، وإبراهيم النخعي نحو ذلك .

وقال سفيان الثوري : حدثنا زبيد ، عن مرة ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله : ( يتلونه حق تلاوته ) [ ص: 404 ] قال : يتبعونه حق اتباعه .

قال القرطبي : وروى نصر بن عيسى ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( يتلونه حق تلاوته ) قال : " يتبعونه حق اتباعه " ، ثم قال : في إسناده غير واحد من المجهولين فيما ذكره الخطيب إلا أن معناه صحيح . وقال أبو موسى الأشعري : من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة . وعن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله ، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها ، قال : وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا مر بآية رحمة سأل ، وإذا مر بآية عذاب تعوذ .

وقوله : ( أولئك يؤمنون به ) خبر عن ( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ) أي : من أقام كتابه من أهل الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته ، آمن بما أرسلتك به يا محمد ، كما قال تعالى : ( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) الآية [ المائدة : 66 ] . وقال : ( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ) [ المائدة : 68 ] ، أي : إذا أقمتموها حق الإقامة ، وآمنتم بها حق الإيمان ، وصدقتم ما فيها من الأخبار بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته والأمر باتباعه ونصره ومؤازرته ، قادكم ذلك إلى الحق واتباع الخير في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) الآية [ الأعراف : 157 ] وقال تعالى : ( قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ) [ الإسراء : 107 ، 108 ] أي : إن كان ما وعدنا به من شأن محمد صلى الله عليه وسلم لواقعا . وقال تعالى : ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون ) [ القصص : 52 ، 54 ] . وقال تعالى : ( وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ) [ آل عمران : 20 ] ولهذا قال تعالى : ( ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ) كما قال تعالى : ( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) [ هود : 17 ] . وفي الصحيح : " والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة : يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي ، إلا دخل النار " .
81
( يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ( 122 ) واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون ( 123 )


قد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة ، وكررت هاهنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي [ ص: 405 ] الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم ونعته واسمه وأمره وأمته . يحذرهم من كتمان هذا ، وكتمان ما أنعم به عليهم ، وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم ، من النعم الدنيوية والدينية ، ولا يحسدوا بني عمهم من العرب على ما رزقهم الله من إرسال الرسول الخاتم منهم . ولا يحملهم ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه ، والحيدة عن موافقته ، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين .
82
(وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ( 124 )

يقول تعالى منبها على شرف إبراهيم خليله ، عليه السلام وأن الله تعالى جعله إماما للناس يقتدى به في التوحيد ، حتى قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي ; ولهذا قال : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ) أي : واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليها ، وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين معك من المؤمنين ، اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم ، أي : اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي ( فأتمهن ) أي : قام بهن كلهن ، كما قال تعالى : ( وإبراهيم الذي وفى ) [ النجم : 37 ] ، أي : وفى جميع ما شرع له ، فعمل به صلوات الله عليه ، وقال تعالى : ( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) [ النحل : 120 ، 123 ] ، وقال تعالى : ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) [ الأنعام : 161 ] ، وقال تعالى : ( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) [ آل عمران : 67 ، 68 ]

وقوله تعالى : ( بكلمات ) أي : بشرائع وأوامر ونواه ، فإن الكلمات تطلق ، ويراد بها الكلمات القدرية ، كقوله تعالى عن مريم ، عليها السلام ، : ( وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) [ التحريم : 12 ] . وتطلق ويراد بها الشرعية ، كقوله تعالى : ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا [ لا مبدل لكلماته ] ) [ الأنعام : 115 ] أي : كلماته الشرعية . وهي إما خبر صدق ، وإما طلب عدل إن كان أمرا أو نهيا ، ومن ذلك هذه الآية الكريمة : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) أي : قام بهن . قال : ( إني جاعلك للناس إماما ) أي : جزاء على ما فعل ، كما قام بالأوامر وترك الزواجر ، جعله الله للناس قدوة وإماما يقتدى به ، ويحتذى حذوه .[ ص: 406 ]

وقد اختلف [ العلماء ] في تفسير الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل ، عليه السلام . فروي عن ابن عباس في ذلك روايات :

فقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، قال ابن عباس : ابتلاه الله بالمناسك . وكذا رواه أبو إسحاق السبيعي ، عن التميمي ، عن ابن عباس .

وقال عبد الرزاق أيضا : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ) قال : ابتلاه الله بالطهارة : خمس في الرأس ، وخمس في الجسد ; في الرأس : قص الشارب ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والسواك ، وفرق الرأس . وفي الجسد : تقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والختان ، ونتف الإبط ، وغسل أثر الغائط والبول بالماء .

قال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن المسيب ، ومجاهد ، والشعبي ، والنخعي ، وأبي صالح ، وأبي الجلد ، نحو ذلك .

قلت : وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عشر من الفطرة : قص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والسواك ، واستنشاق الماء ، وقص الأظفار ، وغسل البراجم ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وانتقاص الماء "[ قال مصعب] ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة .

قال وكيع : انتقاص الماء ، يعني : الاستنجاء .

وفي الصحيح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " الفطرة خمس : الختان ، والاستحداد ، وقص الشارب ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط " . ولفظه لمسلم .

وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا يونس بن عبد الأعلى ، قراءة ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن لهيعة ، عن ابن هبيرة ، عن حنش بن عبد الله الصنعاني ، عن ابن عباس : أنه كان يقول في هذه الآية : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) قال : عشر ، ست في الإنسان ، وأربع في المشاعر . فأما التي في الإنسان : حلق العانة ، ونتف الإبط ، والختان . وكان ابن هبيرة يقول : هؤلاء الثلاثة واحدة . وتقليم الأظفار ، وقص الشارب ، والسواك ، وغسل يوم الجمعة . والأربعة التي في المشاعر : الطواف ، والسعي بين الصفا والمروة ، ورمي الجمار ، والإفاضة .

وقال داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به [ ص: 407 ] كله إلا إبراهيم ، قال الله تعالى : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) قلت له : وما الكلمات التي ابتلى الله إبراهيم بهن فأتمهن ؟ قال : الإسلام ثلاثون سهما ، منها عشر آيات في : براءة : ( التائبون العابدون [ الحامدون ] ) [ التوبة : 112 ] إلى آخر الآية ، وعشر آيات في أول سورة ( قد أفلح المؤمنون ) و ( سأل سائل بعذاب واقع ) وعشر آيات في الأحزاب : ( إن المسلمين والمسلمات ) [ الآية : 35 ] إلى آخر الآية ، فأتمهن كلهن ، فكتبت له براءة . قال الله : ( وإبراهيم الذي وفى ) [ النجم : 37 ] .

هكذا رواه الحاكم ، وأبو جعفر بن جرير ، وأبو محمد بن أبي حاتم ، بأسانيدهم إلى داود بن أبي هند ، به . وهذا لفظ ابن أبي حاتم .

وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن : فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم . ومحاجته نمروذ في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه . وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه في الله على هول ذلك من أمرهم . والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده في الله حين أمره بالخروج عنهم ، وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله ، وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه ، فلما مضى على ذلك من الله كله وأخلصه للبلاء قال الله له : ( أسلم قال أسلمت لرب العالمين ) على ما كان من خلاف الناس وفراقهم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا إسماعيل بن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن يعني البصري : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات [ فأتمهن ] ) قال : ابتلاه بالكوكب فرضي عنه ، وابتلاه بالقمر فرضي عنه ، وابتلاه بالشمس فرضي عنه ، وابتلاه بالهجرة فرضي عنه ، وابتلاه بالختان فرضي عنه ، وابتلاه بابنه فرضي عنه .

وقال ابن جرير : حدثنا بشر بن معاذ ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول : أي والله ، ابتلاه بأمر فصبر عليه : ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر ، فأحسن في ذلك ، وعرف أن ربه دائم لا يزول ، فوجه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما كان من المشركين . ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله ، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك . وابتلاه الله بذبح ابنه والختان فصبر على ذلك .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عمن سمع الحسن يقول في قوله : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات [ فأتمهن ])[ ص: 408]

قال : ابتلاه الله بذبح ولده ، وبالنار ، والكوكب والشمس ، والقمر .

وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا سلم بن قتيبة ، حدثنا أبو هلال ، عن الحسن ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ) قال : ابتلاه بالكوكب ، والشمس ، والقمر ، فوجده صابرا .

وقال العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) فمنهن : ( إني جاعلك للناس إماما ) ومنهن : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) ومنهن : الآيات في شأن المنسك والمقام الذي جعل لإبراهيم ، والرزق الذي رزق ساكنو البيت ، ومحمد بعث في دينهما .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا شبابة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله تعالى : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) قال الله لإبراهيم : إني مبتليك بأمر فما هو ؟ قال : تجعلني للناس إماما . قال : نعم . قال : ومن ذريتي ؟ ( قال لا ينال عهدي الظالمين ) قال : تجعل البيت مثابة للناس ؟ قال : نعم . قال : وأمنا . قال : نعم . قال : وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ؟ قال : نعم . قال : وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله ؟ قال : نعم .

قال ابن أبي نجيح : سمعته من عكرمة ، فعرضته على مجاهد ، فلم ينكره .

وهكذا رواه ابن جرير من غير وجه ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد .

وقال سفيان الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) قال : ابتلي بالآيات التي بعدها : ( إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين )

وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات [ فأتمهن ] ) قال : الكلمات : ( إني جاعلك للناس إماما ) وقوله : ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ) وقوله ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) وقوله : ( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل ) الآية ، وقوله : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) الآية ، قال : فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم .

قال السدي : الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم ربه : ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) ، ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم [يتلو عليهم آياتك])[ ص: 409 ]

[وقال القرطبي : وفي الموطأ وغيره ، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : إبراهيم ، عليه السلام ، أول من اختتن وأول من ضاف الضيف ، وأول من استحد ، وأول من قلم أظفاره ، وأول من قص الشارب ، وأول من شاب فلما رأى الشيب ، قال : ما هذا ؟ قال : وقار ، قال : يا رب ، زدني وقارا . وذكر ابن أبي شيبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، قال : أول من خطب على المنابر إبراهيم ، عليه السلام ، قال غيره : وأول من برد البريد ، وأول من ضرب بالسيف ، وأول من استاك ، وأول من استنجى بالماء ، وأول من لبس السراويل . وروي عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم ، وإن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم " قلت : هذا حديث لا يثبت ، والله أعلم . ثم شرع القرطبي يتكلم على ما يتعلق بهذه الأشياء من الأحكام الشرعية]
قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله : أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر ، وجائز أن يكون بعض ذلك ، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع . قال : ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له .

قال : غير أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران ، أحدهما ما حدثنا به أبو كريب ، حدثنا رشدين بن سعد ، حدثني زبان بن فائد ، عن سهل بن معاذ بن أنس ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله ( الذي وفى ) [ النجم : 37 ] ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى:(فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ) [ الروم : 17 ] حتى يختم الآية " .

قال : والآخر منهما : حدثنا به أبو كريب ، أخبرنا الحسن ، عن عطية ، أخبرنا إسرائيل ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وإبراهيم الذي وفى ) أتدرون ما وفى ؟ " . قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " وفى عمل يومه ، أربع ركعات في النهار " .

ورواه آدم في تفسيره ، عن حماد بن سلمة . وعبد بن حميد ، عن يونس بن محمد ، عن حماد بن سلمة ، عن جعفر بن الزبير ، به .

ثم شرع ابن جرير يضعف هذين الحديثين ، وهو كما قال ; فإنه لا تجوز روايتهما إلا ببيان ضعفهما ، وضعفهما من وجوه عديدة ، فإن كلا من السندين مشتمل على غير واحد من الضعفاء ، مع ما في متن الحديث مما يدل على ضعفه [ والله أعلم ] .

ثم قال ابن جرير : ولو قال قائل : إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى [ ص: 410 ] بالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبا ، فإن قوله : ( إني جاعلك للناس إماما ) وقوله : ( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين ) وسائر الآيات التي هي نظير ذلك ، كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلى بهن إبراهيم .

قلت : والذي قاله أولا من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر ، أقوى من هذا الذي جوزه من قول مجاهد ومن قال مثله ; لأن السياق يعطي غير ما قالوه والله أعلم .

وقوله : ( قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) لما جعل الله إبراهيم إماما ، سأل الله أن تكون الأئمة من بعده من ذريته ، فأجيب إلى ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون ، وأنه لا ينالهم عهد الله ، ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم ، والدليل على أنه أجيب إلى طلبته قول الله تعالى في سورة العنكبوت : ( وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب ) [ العنكبوت : 27 ] فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه .

وأما قوله تعالى : ( قال لا ينال عهدي الظالمين ) فقد اختلفوا في ذلك ، فقال خصيف ، عن مجاهد في قوله : ( قال لا ينال عهدي الظالمين ) قال : إنه سيكون في ذريتك ظالمون .

وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد،(قال لا ينال عهدي الظالمين) قال : لا يكون لي إمام ظالم [ يقتدى به ] . وفي رواية : لا أجعل إماما ظالما يقتدى به . وقال سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله تعالى : ( قال لا ينال عهدي الظالمين ) قال : لا يكون إمام ظالم يقتدى به .

وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا شريك ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : ( ومن ذريتي ) قال : أما من كان منهم صالحا فسأجعله إماما يقتدى به ، وأما من كان ظالما فلا ولا نعمة عين .

وقال سعيد بن جبير : ( لا ينال عهدي الظالمين ) المراد به المشرك ، لا يكون إمام ظالم . يقول : لا يكون إمام مشرك .

وقال ابن جريج ، عن عطاء ، قال : ( إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي ) فأبى أن يجعل من ذريته إماما ظالما . قلت لعطاء : ما عهده ؟ قال : أمره .

وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا عمرو بن ثور القيساري فيما كتب إلي ، حدثنا الفريابي ، حدثنا إسرائيل ، حدثنا سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال الله لإبراهيم : ( إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي ) فأبى أن يفعل ، ثم قال:( لا ينال عهدي الظالمين )[ ص: 411 ]

وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس : ( قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) يخبره أنه كائن في ذريته ظالم لا ينال عهده ولا ينبغي [له] أن يوليه شيئا من أمره وإن كان من ذرية خليله ومحسن ستنفذ فيه دعوته ، وتبلغ له فيه ما أراد من مسألته .

وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( لا ينال عهدي الظالمين ) قال : يعني لا عهد لظالم عليك في ظلمه ، أن تطيعه فيه .

وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ، عن إسرائيل ، عن مسلم الأعور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : ( لا ينال عهدي الظالمين ) قال : ليس للظالمين عهد ، وإن عاهدته فانتقضه .

وروي عن مجاهد ، وعطاء ، ومقاتل بن حيان ، نحو ذلك .

وقال الثوري ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، قال : ليس لظالم عهد .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله :(لا ينال عهدي الظالمين) قال : لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمين ، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به ، وأكل وعاش .

وكذا قال إبراهيم النخعي ، وعطاء ، والحسن ، وعكرمة .

وقال الربيع بن أنس : عهد الله الذي عهد إلى عباده : دينه ، يقول : لا ينال دينه الظالمين ، ألا ترى أنه قال : ( وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين)[الصافات : 113 ] ، يقول : ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق 

وكذا روي عن أبي العالية ، وعطاء ، ومقاتل بن حيان .

وقال جويبر ، عن الضحاك : لا ينال طاعتي عدو لي يعصيني ، ولا أنحلها إلا وليا لي يطيعني .

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سعيد الأسدي ، حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( لا ينال عهدي الظالمين ) قال : " لا طاعة إلا في المعروف " .[ ص: 412 ]

وقال السدي : ( لا ينال عهدي الظالمين ) يقول : عهدي نبوتي .

فهذه أقوال مفسري السلف في هذه الآية على ما نقله ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، رحمهما الله تعالى . واختار ابن جرير أن هذه الآية وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالما . ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل ، عليه السلام ، أنه سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه ، كما تقدم عن مجاهد وغيره ، والله أعلم .

83
الآتي ان شاء الله 13

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق