حمل المصحف

Translate ترجم الي اي لغة تختارها داد7.

الخميس، 9 فبراير 2017

15- من قوله تعالي(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع..)الي(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ...)

يأتي 101 ان شاء الله
101
(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ( 155 ) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ( 156 ) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ( 157 )
أخبر تعالى أنه يبتلي عباده [ المؤمنين ] أي : يختبرهم ويمتحنهم ، كما قال تعالى : ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ) [ محمد : 31 ] فتارة بالسراء ، وتارة بالضراء من خوف وجوع ، كما قال تعالى : ( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ) [ النحل : 112 ] فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه ; ولهذا قال : لباس الجوع والخوف . وقال هاهنا ( بشيء من الخوف والجوع ) أي : بقليل من ذلك ( ونقص من الأموال ) أي : ذهاب بعضها ) والأنفس ) كموت الأصحاب والأقارب والأحباب ) والثمرات ) أي : لا تغل الحدائق والمزارع كعادتها . كما قال بعض السلف : فكانت بعض النخيل لا تثمر غير واحدة . وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده ، فمن صبر أثابه [ الله ] ومن قنط أحل [ الله ] به عقابه . ولهذا قال : ( وبشر الصابرين )
وقد حكى بعض المفسرين أن المراد من الخوف هاهنا : خوف الله ، وبالجوع : صيام رمضان ، ونقص الأموال : الزكاة ، والأنفس : الأمراض ، والثمرات : الأولاد .
وفي هذا نظر ، والله أعلم .
ثم بين تعالى من الصابرون الذين شكرهم ، قال : ( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ) أي : تسلوا بقولهم هذا عما أصابهم ، وعلموا أنهم ملك لله يتصرف في عبيده [ ص: 468 ] بما يشاء ، وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة ، فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده ، وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة . ولهذا أخبر تعالى عما أعطاهم على ذلك فقال : ( أولئك عليهم صلوات من ربهم ) أي : ثناء من الله عليهم ورحمة .
قال سعيد بن جبير : أي : أمنة من العذاب ( وأولئك هم المهتدون ) قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : نعم العدلان ونعمت العلاوة ( أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ) فهذان العدلان ( وأولئك هم المهتدون ) فهذه العلاوة ، وهي ما توضع بين العدلين ، وهي زيادة في الحمل وكذلك هؤلاء ، أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضا .
وقد ورد في ثواب الاسترجاع ، وهو قول ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) عند المصائب أحاديث كثيرة . فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد :
حدثنا يونس ، حدثنا ليث يعني ابن سعد عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن المطلب ، عن أم سلمة قالت : أتاني أبو سلمة يوما من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سررت به . قال : " لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ، ثم يقول : اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها ، إلا فعل ذلك به " . قالت أم سلمة : فحفظت ذلك منه ، فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت : اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منه ، ثم رجعت إلى نفسي . فقلت : من أين لي خير من أبي سلمة ؟ فلما انقضت عدتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أدبغ إهابا لي فغسلت يدي من القرظ وأذنت له ، فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف ، فقعد عليها ، فخطبني إلى نفسي ، فلما فرغ من مقالته قلت : يا رسول الله ، ما بي ألا يكون بك الرغبة ، ولكني امرأة ، في غيرة شديدة ، فأخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به ، وأنا امرأة قد دخلت في السن ، وأنا ذات عيال ، فقال : " أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبها الله ، عز وجل عنك . وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك ، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي " . قالت : فقد سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت أم سلمة بعد : أبدلني الله بأبي سلمة خيرا منه ، رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي صحيح مسلم ، عنها أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها ، إلا آجره الله من مصيبته ، وأخلف له خيرا منها " قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخلف الله لي خيرا منه : رسول الله صلى الله عليه وسلم[ ص: 469 ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، وعباد بن عباد قالا : حدثنا هشام بن أبي هشام ، حدثنا عباد بن زياد ، عن أمه ، عن فاطمة ابنة الحسين ، عن أبيها الحسين بن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها ، وقال عباد : قدم عهدها فيحدث لذلك استرجاعا،إلا جدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب" .
ورواه ابن ماجه في سننه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وكيع ، عن هشام بن زياد ، عن أمه ، عن فاطمة بنت الحسين ، عن أبيها [ الحسين ] .
وقد رواه إسماعيل بن علية ، ويزيد بن هارون ، عن هشام بن زياد عن أبيه ، كذا عن ، فاطمة ، عن أبيها .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق السالحيني ، أخبرنا حماد بن سلمة ، عن أبي سنان قال : دفنت ابنا لي ، فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة يعني الخولاني فأخرجني ، وقال لي : ألا أبشرك ؟ قلت : بلى . قال : حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب ، عن أبي موسى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله : يا ملك الموت ، قبضت ولد عبدي ؟ قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده ؟ قال نعم . قال : فما قال ؟ قال : حمدك واسترجع ، قال : ابنو له بيتا في الجنة ، وسموه بيت الحمد " .
ثم رواه عن علي بن إسحاق ، عن عبد الله بن المبارك . فذكره . وهكذا رواه الترمذي عن سويد بن نصر ، عن ابن المبارك ، به . وقال : حسن غريب . واسم أبي سنان : عيسى بن سنان .
102
( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ( 158 ) 

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قُلْتُ : أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) قُلْتُ : فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : بِئْسَمَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي ، إِنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى مَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ : فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ [ ص: 470 ] أَلَّا يَطَّوَفَ بِهِمَا ، وَلَكِنَّهَا إِنَّمَا أُنْزِلَتْ أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ ، التِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ . وَكَانَ مَنْ أَهَلَّ لَهَا يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ) إِلَى قَوْلِهِ : ( فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) قَالَتْ عَائِشَةُ : ثُمَّ قَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بِهِمَا ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ الطَّوَافَ بِهِمَا . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، فَقَالَ : إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ ، مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ : إِنَّ النَّاسَ إِلَّا مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ كَانُوا يَقُولُونَ : إِنَّ طَوَافَنَا بَيْنَ هَذَيْنَ الْحَجَرَيْنِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ : إِنَّمَا أُمِرْنَا بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ ، وَلَمْ نُؤْمَرْ بِالطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ) قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : فَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ .
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ . ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ : سَأَلْتُ أَنَسًا عَنِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَ : كُنَّا نَرَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمْسَكْنَا عَنْهُمَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ) .
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تُفَرِّقُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ اللَّيْلَ كُلَّهُ ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا آلِهَةٌ ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، عَنِ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : كَانَ إِسَافٌ عَلَى الصَّفَا ، وَكَانَتْ نَائِلَةُ عَلَى الْمَرْوَةِ ، وَكَانُوا يَسْتَلِمُونَهُمَا فَتَحَرَّجُوا بَعْدَ الْإِسْلَامِ مِنَ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ . قُلْتُ : وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ السِّيرَةِ أَنَّ إِسَافًا وَنَائِلَةَ كَانَا بَشَرَيْنِ ، فَزَنَيَا دَاخِلَ الْكَعْبَةِ فَمُسِخَا حَجَرَيْنِ فَنَصَبَتْهُمَا قُرَيْشٌ تُجَاهَ الْكَعْبَةِ لِيَعْتَبِرَ بِهِمَا النَّاسُ ، فَلَمَّا طَالَ عَهْدُهُمَا عُبِدَا ، ثُمَّ حُوِّلَا إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَنُصِبَا هُنَالِكَ ، فَكَانَ مَنْ طَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَسْتَلِمُهُمَا ، وَلِهَذَا يَقُولُ أَبُو طَالِبٍ ، فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ :
وَحَيْثُ يُنِيخُ الْأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ بِمَفْضَى السِّيُولُ مِنْ إِسَافِ وَنَائِلِ
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ [ مِنْ ] حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ ، وَفِيهِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ [ ص: 471 ] بِالْبَيْتِ ، عَادَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا ، وَهُوَ يَقُولُ : ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ) ثُمَّ قَالَ : " أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ " . وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ : " ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ " .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا شُرَيْحٌ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ ، عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تَجْرَاةَ قَالَتْ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَالنَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَهُوَ وَرَاءَهُمْ ، وَهُوَ يَسْعَى حَتَّى أَرَى رُكْبَتَيْهِ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ يَدُورُ بِهِ إِزَارُهُ ، وَهُوَ يَقُولُ : " اسْعَوْا ، فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ " .
ثُمَّ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، عَنْ وَاصِلٍ مَوْلَى أَبِي عُيَيْنَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ ، أَنَّ امْرَأَةً أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَقُولُ : " كُتِبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيُ ، فَاسْعَوْا " .
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَنْ وَافَقَهُ [ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ ] . وَقِيلَ : إِنَّهُ وَاجِبٌ ، وَلَيْسَ بِرُكْنٍ [ فَإِنْ تَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا جَبَرَهُ بِدَمٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَبِهِ تَقُولُ طَائِفَةٌ وَقِيلَ : بَلْ مُسْتَحَبٌّ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ ، وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ : ( فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا ) ] . وَقِيلَ : بَلْ مُسْتَحَبٌّ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَافَ بَيْنَهُمَا ، وَقَالَ : " لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ " . فَكُلُّ مَا فَعَلَهُ فِي حَجَّتِهِ تِلْكَ وَاجِبٌ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ فِي الْحَجِّ ، إِلَّا مَا خَرَجَ بِدَلِيلٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ [ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:"اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ]  فَقَدْ بَيّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ، أَيْ : مِمَّا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ تَطْوَافِ هَاجَرَ وَتَرْدَادِهَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي طَلَبِ الْمَاءِ لِوَلَدِهَا ، لَمَّا نَفِدَ مَاؤُهَا وَزَادُهَا ، حِينَ تَرَكَهُمَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُنَالِكَ لَيْسَ عِنْدَهُمَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ ، فَلَمَّا خَافَتِ الضَّيْعَةُ عَلَى وَلَدِهَا هُنَالِكَ ، وَنَفِدَ مَا عِنْدَهَا قَامَتْ تَطْلُبُ الْغَوْثَ مِنَ اللَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، فَلَمْ تَزَلْ تَرَدَّدُ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ الْمُشَرَّفَةِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مُتَذَلِّلَةً خَائِفَةً وَجِلَةً مُضْطَرَّةً فَقِيرَةً إِلَى اللَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، حَتَّى كَشَفَ اللَّهُ كُرْبَتَهَا ، وَآنَسَ غُرْبَتَهَا ، وَفَرَّجَ شِدَّتَهَا ، وَأَنْبَعَ لَهَا زَمْزَمَ التِي مَاؤُهَا طَعَامُ طَعْمٍ ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ ، فَالسَّاعِي بَيْنَهُمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ فَقْرَهُ وَذُلُّهُ وَحَاجَتَهُ إِلَى اللَّهِ فِي هِدَايَةِ قَلْبِهِ وَصَلَاحِ حَالِهِ وَغُفْرَانِ ذَنْبِهِ ، وَأَنْ يَلْتَجِئَ إِلَى اللَّهِ ، [ ص: 472 ] عَزَّ وَجَلَّ ، لِيُزِيحَ مَا هُوَ بِهِ مِنَ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ ، وَأَنْ يَهْدِيَهُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَأَنْ يُثَبِّتَهُ عَلَيْهِ إِلَى مَمَاتِهِ ، وَأَنْ يُحَوِّلَهُ مِنْ حَالِهِ الذِي هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي ، إِلَى حَالِ الْكَمَالِ وَالْغُفْرَانِ وَالسَّدَادِ وَالِاسْتِقَامَةِ ، كَمَا فَعَلَ بِهَاجَرَ عَلَيْهَا السَّلَامُ .
وَقَوْلُهُ : ( فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا ) قِيلَ : زَادَ فِي طَوَافِهِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ ثَامِنَةً وَتَاسِعَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَقِيلَ : يَطُوفُ بَيْنَهُمَا فِي حَجَّةِ تَطَوُّعٍ ، أَوْ عُمْرَةِ تَطَوُّعٍ . وَقِيلَ : الْمُرَادُ تَطَوَّعَ خَيْرًا فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ . حَكَى ذَلِكَ [ فَخْرُ الدِّينِ ] الرَّازِيُّ ، وَعَزَى الثَّالِثَ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ : ( فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) أَيْ : يُثِيبُ عَلَى الْقَلِيلِ بِالْكَثِيرِ ) عَلِيمٌ ) بِقَدْرِ الْجَزَاءِ فَلَا يَبْخَسُ أَحَدًا ثَوَابَهُ وَ ( لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) [ النِّسَاءِ : 40 ] .
103
( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ( 159 ) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 160 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 161 ) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ( 162 ) 

هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ كَتَمَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الدَّلَالَاتِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ وَالْهُدَى النَّافِعِ لِلْقُلُوبِ ، مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ فِي كُتُبِهِ ، التِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ .
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ، كَتَمُوا صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَلْعَنُهُمْ كُلُّ شَيْءٍ عَلَى صَنِيعِهِمْ ذَلِكَ ، فَكَمَا أَنَّ الْعَالِمَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ ، حَتَّى الْحُوتُ فِي الْمَاءِ وَالطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ ، فَهَؤُلَاءِ بِخِلَافِ الْعُلَمَاءِ [ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ] فَيَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ . وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ مِنْ طُرُقٍ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَغَيْرِهِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ " . وَالذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ أَحَدًا شَيْئًا : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ) الْآيَةَ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ ، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ ،[ ص: 473 ]
عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ زَاذَانَ أَبِي عُمَرَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ، قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ ، فَقَالَ : " إِنَّ الْكَافِرَ يُضْرَبُ ضَرْبَةً بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، فَيَسْمَعُ كُلُّ دَابَّةٍ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ ، فَتَلْعَنُهُ كُلُّ دَابَّةٍ سَمِعَتْ صَوْتَهُ ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : ( أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) يَعْنِي : دَوَابُّ الْأَرْضِ " .
[ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِهِ ]
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ : كُلُّ دَابَّةٍ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : إِذَا أَجْدَبَتِ الْأَرْضُ قَالَتِ الْبَهَائِمُ : هَذَا مِنْ أَجْلِ عُصَاةِ بَنِي آدَمَ ، لَعَنَ اللَّهُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ ، وَقَتَادَةُ ( وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) يَعْنِي تَلْعَنُهُمْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ ، وَالْمُؤْمِنُونَ .
[ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ، أَنَّ الْعَالِمَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِيتَانُ ، وَجَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : أَنَّ كَاتِمَ الْعِلْمِ يَلْعَنُهُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ ، وَاللَّاعِنُونَ أَيْضًا ، وَهُمْ كُلُّ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِيٍّ إِمَّا بِلِسَانِ الْمَقَالِ ، أَوِ الْحَالِ ، أَوْ لَوْ كَانَ لَهُ عَقْلٌ ، أَوْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ] .
ثُمَّ اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ فَقَالَ : ( إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا ) أَيْ : رَجَعُوا عَمَّا كَانُوا فِيهِ وَأَصْلَحُوا أَعْمَالَهُمْ وَأَحْوَالَهُمْ وَبَيَّنُوا لِلنَّاسِ مَا كَانُوا كَتَمُوهُ ( فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَةَ إِلَى كَفْرٍ ، أَوْ بِدْعَةٍ إِذَا تَابَ إِلَى اللَّهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْأُمَمَ السَّابِقَةَ لَمْ تَكُنِ التَّوْبَةُ تُقْبَلُ مِنْ مِثْلِ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ ، وَلَكِنَّ هَذَا مِنْ شَرِيعَةِ نَبِيِّ التَّوْبَةِ وَنَبِيِّ الرَّحْمَةِ صَلَوَاتُ اللَّهُ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ .
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّنْ كَفَرَ بِهِ وَاسْتَمَرَّ بِهِ الْحَالُ إِلَى مَمَاتِهِ بِأَنَّ ( عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا ) أَيْ : فِي اللَّعْنَةِ التَّابِعَةِ لَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ الْمُصَاحِبَةِ لَهُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ التِي ( لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ) فِيهَا ، أَيْ : لَا يَنْقُصُ عَمَّا هُمْ فِيهِ ( وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ) أَيْ : لَا يُغَيَّرُ عَنْهُمْ سَاعَةً وَاحِدَةً ، وَلَا يُفَتَّرُ ، بَلْ هُوَ مُتَوَاصِلٌ دَائِمٌ ، فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ : إِنَّ الْكَافِرَ يُوقَفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَلْعَنُهُ اللَّهُ ، ثُمَّ تَلْعَنُهُ الْمَلَائِكَةُ ، ثُمَّ يَلْعَنُهُ النَّاسُ أَجْمَعُونَ .
فَصْلٌ : لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ لَعْنِ الْكُفَّارِ ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعَمَّنْ بَعْدَهُ [ ص: 474 ] مِنَ الْأَئِمَّةِ ، يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي الْقُنُوتِ وَغَيْرِهِ ; فَأَمَّا الْكَافِرُ الْمُعَيَّنُ ، فَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُلْعَنُ لِأَنَّا لَا نَدْرِي بِمَا يُخْتَمُ لَهُ ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : بَلْ يَجُوزُ لَعْنُ الْكَافِرِ الْمُعَيَّنِ . وَاخْتَارَ ذَلِكَ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ ، وَلَكِنَّهُ احْتَجَّ بِحَدِيثٍ فِيهِ ضَعْفٌ ، وَاسْتَدَلَّ غَيْرُهُ بِقَوْلِهِ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي قِصَّةِ الذِي كَانَ يُؤْتَى بِهِ سَكْرَانَ فَيَحُدُّهُ ، فَقَالَ رَجُلٌ : لَعَنَهُ اللَّهُ ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " قَالُوا : فَعِلَّةُ الْمَنْعِ مِنْ لَعْنِهِ ; بِأَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُلْعَنُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
104
( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ( 163 ) 

يخبر تعالى عن تفرده بالإلهية ، وأنه لا شريك له ولا عديل له ، بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي لا إله إلا هو وأنه الرحمن الرحيم . وقد تقدم تفسير هذين الاسمين في أول السورة . وفي الحديث عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد بن السكن ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين : ( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ) و ( الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) [ آل عمران : 1 ، 2 ] "
105
( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 164 )
 
ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ [ بِتَفَرُّدِهِ ] بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِمَّا ذَرَأَ وَبَرَأَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ ، فَقَالَ : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ التِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) يَقُولُ تَعَالَى : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) تِلْكَ فِي [ لَطَافَتِهَا وَ ] ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا وَكَوَاكِبِهَا السَّيَّارَةِ وَالثَّوَابِتِ وَدَوْرَانِ فَلَكِهَا ، وَهَذِهِ الْأَرْضُ فِي [ كَثَافَتِهَا وَ ] انْخِفَاضِهَا وَجِبَالِهَا وَبِحَارِهَا وَقَفَارِهَا وَوِهَادِهَا وَعُمْرَانِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ ( وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) هَذَا يَجِيءُ ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَخْلُفُهُ الْآخَرُ وَيَعْقُبُهُ ، لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ لَحْظَةً ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) [ يس : 40 ] وَتَارَةً يَطُولُ هَذَا وَيَقْصُرُ هَذَا ، وَتَارَةً يَأْخُذُ هَذَا مِنْ هَذَا ثُمَّ يَتَقَارَضَانِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) [ الْحَجِّ : 61 ] أَيْ : يَزِيدُ مِنْ هَذَا فِي هَذَا ، وَمِنْ هَذَا فِي هَذَا ( وَالْفُلْكِ التِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ ) [ ص: 475 ] أَيْ : فِي تَسْخِيرِ الْبَحْرِ لِحَمْلِ السُّفُنِ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ لِمَعَاشِ النَّاسِ ، وَالِانْتِفَاعِ بِمَا عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ ، وَنَقْلِ هَذَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَا عِنْدَ أُولَئِكَ إِلَى هَؤُلَاءِ ( وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ) [ يس : 33 - 36 ] ( وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ) أَيْ : عَلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا وَمَنَافِعِهَا وَصِغَرِهَا وَكِبَرِهَا ، وَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيَرْزُقُهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) [ هُودٍ : 6 ] ( وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ) أَيْ : تَارَةً تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَتَارَةً تَأْتِي بِالْعَذَابِ ، تَارَةً تَأْتِي مُبَشِّرَةً بَيْنَ يَدَيِ السَّحَابِ ، وَتَارَةً تَسُوقُهُ ، وَتَارَةً تُجَمِّعُهُ ، وَتَارَةً تُفَرِّقُهُ ، وَتَارَةً تُصَرِّفُهُ ، [ ثُمَّ تَارَةً تَأْتِي مِنَ الْجَنُوبِ وَهِيَ الشَّامِيَّةُ ، وَتَارَةً تَأْتِي مِنْ نَاحِيَةِ الْيَمَنِ وَتَارَةً صَبَا ، وَهِيَ الشَّرْقِيَّةُ التِي تَصْدِمُ وَجْهَ الْكَعْبَةِ ، وَتَارَةً دَبُورٌ وَهِيَ غَرْبِيَّةٌ تَفِدُ مِنْ نَاحِيَةِ دُبُرِ الْكَعْبَةِ ، وَالرِّيَاحُ تُسَمَّى كُلَّهَا بِحَسْبَ مُرُورِهَا عَلَى الْكَعْبَةِ . وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي الرِّيَاحِ وَالْمَطَرِ وَالْأَنْوَاءِ كُتُبًا كَثِيرَةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِلُغَاتِهَا وَأَحْكَامِهَا ، وَبَسْطُ ذَلِكَ يَطُولُ هَاهُنَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ] . ( وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) [ أَيْ : سَائِرٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ] يُسَخَّرُ إِلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ مِنَ الْأَرَاضِي وَالْأَمَاكِنِ ، كَمَا يُصَرِّفُهُ تَعَالَى : ( لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) أَيْ : فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَلَالَاتٌ بَيِّنَةٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) [ آلِ عِمْرَانَ : 190 ، 191 ] . وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الدَّشْتَكِيُّ ، حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أَتَتْ قُرَيْشٌ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ إِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ تَدْعُوَ رَبَّكَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا ، فَنَشْتَرِيَ بِهِ الْخَيْلَ وَالسِّلَاحَ ، فَنُؤْمِنَ بِكَ وَنُقَاتِلَ مَعَكَ . قَالَ : " أَوْثِقُوا لِي لَئِنْ دَعَوْتُ رَبِّي فَجَعَلَ لَكُمُ الصَّفَا ذَهَبًا لَتُؤْمِنُنَّ بِي " فَأَوْثَقُوا لَهُ ، فَدَعَا رَبَّهُ ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ : إِنَّ رَبَّكَ قَدْ أَعْطَاهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا عَلَى أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِكَ عَذَّبَهُمْ عَذَابًا لَمْ يُعَذِّبْهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ . قَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رَبِّ لَا ، بَلْ دَعْنِي وَقَوْمِي فَلَأَدْعُهُمْ يَوْمًا بِيَوْمٍ " . فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ التِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ ) الْآيَةَ .[ ص: 476 ]
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ ، بِهِ . وَزَادَ فِي آخِرِهِ : وَكَيْفَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الصَّفَا وَهُمْ يَرَوْنَ مِنَ الْآيَاتِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الصَّفَا .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، قَالَ : نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ : ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) فَقَالَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ : كَيْفَ يَسَعُ النَّاسَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ التِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ ) إِلَى قَوْلِهِ : ( لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )
فَبِهَذَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ، وَأَنَّهُ إِلَهُ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ .
وَقَالَ وَكِيعٌ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي الضُّحَى قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ : ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ، قَالَ الْمُشْرِكُونَ : إِنْ كَانَ هَكَذَا فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) إِلَى قَوْلِهِ:(يَعْقِلُونَ)
وَرَوَاهُ آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ هُوَ الرَّازِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ ، وَالدِ سُفْيَانَ ، عَنْ أَبِي الضُّحَى ، بِهِ .
106
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ( 165 ) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ( 166 ) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ( 167 )

يُذْكُرُ تَعَالَى حَالَ الْمُشْرِكِينَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ ، حَيْثُ جَعَلُوا [ لَهُ ] أَنْدَادًا ، أَيْ : أَمْثَالًا وَنُظَرَاءَ يَعْبُدُونَهُمْ مَعَهُ وَيُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّهِ ، وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، وَلَا ضِدَّ لَهُ وَلَا نِدَّ لَهُ ، وَلَا شَرِيكَ مَعَهُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : " أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ " .
وَقَوْلُهُ : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ) وَلِحُبِّهِمْ لِلَّهِ وَتَمَامِ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ ، وَتَوْقِيرِهِمْ وَتَوْحِيدِهِمْ لَهُ ، لَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا ، بَلْ يَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ وَيَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِ ، وَيَلْجَئُونَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ إِلَيْهِ . ثُمَّ تَوَعَّدَ تَعَالَى الْمُشْرِكِينَ بِهِ ، الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ فَقَالَ : ( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا )[ ص: 477 ]
قَالَ بَعْضُهُمْ : تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : لَوْ عَايَنُوا الْعَذَابَ لَعَلِمُوا حِينَئِذٍ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ، أَيْ : إِنَّ الْحُكْمَ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ تَحْتَ قَهْرِهِ وَغَلَبَتِهِ وَسُلْطَانِهِ ( وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ) كَمَا قَالَ : ( فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ) [ الْفَجْرِ : 25 ، 26 ] يَقُولُ : لَوْ عَلِمُوا مَا يُعَايِنُونَهُ هُنَالِكَ ، وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْأَمْرِ الْفَظِيعِ الْمُنْكَرِ الْهَائِلِ عَلَى شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ ، لَانْتَهَوْا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ .
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ كُفْرِهِمْ بِأَوْثَانِهِمْ وَتَبَرُّؤِ الْمَتْبُوعِينَ مِنَ التَّابِعَيْنِ ، فَقَالَ : ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [ وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ] ) تَبَرَّأَتْ مِنْهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ : ( تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ) [ الْقَصَصِ : 63 ] وَيَقُولُونَ : ( سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ) [ سَبَأٍ : 41 ] وَالْجِنُّ أَيْضًا تَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ ، وَيَتَنَصَّلُونَ مِنْ عِبَادَتِهِمْ لَهُمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ) [ الْأَحْقَافِ : 5 ، 6 ] وَقَالَ تَعَالَى : ( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) [ مَرْيَمَ : 81 ، 82 ] وَقَالَ الْخَلِيلُ لِقَوْمِهِ : ( إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ) [ الْعَنْكَبُوتِ : 25 ] وَقَالَ تَعَالَى : ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضِ الْقَوْلِ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [ سَبَأٍ : 31 - 33 ] وَقَالَ تَعَالَى : ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [ إِبْرَاهِيمَ : 22 ] .
وَقَوْلُهُ : ( وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ) أَيْ : عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْحِيَلُ وَأَسْبَابُ الْخَلَاصِ وَلَمْ يَجِدُوا عَنِ النَّارِ مَعْدِلًا وَلَا مَصْرِفًا .
قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ) قَالَ : الْمَوَدَّةُ . وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ .
وَقَوْلُهُ : ( وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ) أَيْ : لَوْ أَنَّ لَنَا عَوْدَةً إِلَى [ ص: 478 ] الدَّارِ الدُّنْيَا حَتَّى نَتَبَرَّأَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ عِبَادَتِهِمْ ، فَلَا نَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ ، بَلْ نُوَحِّدُ اللَّهَ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ . وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي هَذَا ، بَلْ لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ . كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِذَلِكَ ; وَلِهَذَا قَالَ : ( كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) أَيْ : تَذْهَبُ وَتَضْمَحِلُّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ) [ الْفُرْقَانِ : 23 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : ( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ) الْآيَةَ [ إِبْرَاهِيمَ : 18 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً ) الْآيَةَ [ النُّورِ : 39 ] ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : ( وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ )
107
( يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 168 ) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ( 169 ) 

لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، وَأَنَّهُ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ ، شَرَعَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ الرَّزَّاقُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ ، فَذَكَرَ [ ذَلِكَ ] فِي مَقَامِ الِامْتِنَانِ أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ فِي حَالِ كَوْنِهِ حَلَالًا مِنَ اللَّهِ طَيِّبًا ، أَيْ : مُسْتَطَابًا فِي نَفْسِهِ غَيْرَ ضَارٍّ لِلْأَبْدَانِ وَلَا لِلْعُقُولِ ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ، وَهِيَ : طَرَائِقُهُ وَمَسَالِكُهُ فِيمَا أَضَلَّ أَتْبَاعَهُ فِيهِ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْوَصَائِلِ وَنَحْوِهَا مِمَّا زَيَّنَهُ لَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ ، كَمَا فِي حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّ كُلَّ مَا أَمْنَحُهُ عِبَادِي فَهُوَ لَهُمْ حَلَالٌ " وَفِيهِ : " وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ "
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ شَيْبَةَ الْمِصْرِيُّ ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الِاحْتِيَاطِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُوزَجَانِيُّ رَفِيقُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : تُلَيَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا ) فَقَامَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ ، فَقَالَ . " يَا سَعْدُ ، أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ ، وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، إِنَّ الرَّجُلَ لَيَقْذِفُ اللُّقْمَةَ الْحَرَامَ فِي جَوْفِهِ مَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنَ السُّحْتِ وَالرِّبَا فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ " .
وَقَوْلُهُ : ( إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) تَنْفِيرٌ عَنْهُ وَتَحْذِيرٌ مِنْهُ ، كَمَا قَالَ : ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) [ فَاطِرٍ : 6 ] وَقَالَ تَعَالَى : ( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ) [ الْكَهْفِ : 50 ][ ص: 479 ]
وَقَالَ قَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ : ( وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) كُلُّ مَعْصِيَةٍ لِلَّهِ فَهِيَ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ : هِيَ نَزَغَاتُ الشَّيْطَانِ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ : خُطَاهُ ، أَوْ قَالَ : خَطَايَاهُ .
وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ : هِيَ النُّذُورُ فِي الْمَعَاصِي .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : نَذَرَ رَجُلٌ أَنْ يَنْحَرَ ابْنَهُ فَأَفْتَاهُ مَسْرُوقٌ بِذَبْحِ كَبْشٍ . وَقَالَ : هَذَا مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ .
وَقَالَ أَبُو الضُّحَى ، عَنْ مَسْرُوقٍ : أَتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِضَرْعٍ وَمِلْحٍ ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ ، فَاعْتَزَلَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : نَاوِلُوا صَاحِبَكُمْ . فَقَالَ : لَا أُرِيدُهُ . فَقَالَ : أَصَائِمٌ أَنْتَ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَمَا شَأْنُكَ ؟ قَالَ : حَرَّمْتُ أَنْ آكُلَ ضَرْعًا أَبَدًا . فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : هَذَا مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ، فَاطْعَمْ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ .
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، وَقَالَ أَيْضًا :
حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمِصْرِيُّ ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ ، قَالَ : غَضِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي ، فَقَالَتْ : هِيَ يَوْمًا يَهُودِيَّةٌ وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّةٌ ، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ ، إِنْ لَمْ تُطْلِّقِ امْرَأَتَكَ . فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ : إِنَّمَا هَذِهِ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ . وَكَذَلِكَ قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ أَفْقَهُ امْرَأَةٍ فِي الْمَدِينَةِ . وَأَتَيْتُ عَاصِمًا وَابْنَ عُمَرَ فَقَالَا مِثْلَ ذَلِكَ .
وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ : حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ شَرِيكٍ ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مَا كَانَ مِنْ يَمِينٍ أَوْ نَذْرٍ فِي غَضَبٍ ، فَهُوَ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ .
[ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ دَاوُدَ فِي تَفْسِيرِهِ : حَدَّثَنَا عُبَادَةُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي رَجُلٍ قَالَ لِغُلَامِهِ : إِنْ لَمْ أَجْلِدْكَ مِائَةَ سَوْطٍ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ ، قَالَ : لَا يَجْلِدُ غُلَامَهُ ، وَلَا تُطَلَّقُ امْرَأَتُهُ ، هَذَا مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ] .
وَقَوْلُهُ : ( إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) أَيْ : إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ عَدُوُّكُمُ الشَّيْطَانُ بِالْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ ، وَأَغْلَظُ مِنْهَا الْفَاحِشَةُ كَالزِّنَا وَنَحْوَهُ ، وَأَغْلَظُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ ، فَيَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ كَافِرٍ وَكُلُّ مُبْتَدِعٍ أَيْضًا .
108
[ ص: 480]( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ( 170 ) ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ( 171 )
 
يقول تعالى : ( وإذا قيل ) لهؤلاء الكفرة من المشركين : ( اتبعوا ما أنزل الله ) على رسوله ، واتركوا ما أنتم فيه من الضلال والجهل ، قالوا في جواب ذلك : ( بل نتبع ما ألفينا ) أي : وجدنا ( عليه آباءنا ) أي : من عبادة الأصنام والأنداد . قال الله تعالى منكرا عليهم : ( أولو كان آباؤهم ) أي : الذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم ( لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) أي : ليس لهم فهم ولا هداية ! ! .
وروى ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنها نزلت في طائفة من اليهود ، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، فقالوا : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا . فأنزل الله هذه الآية .
ثم ضرب لهم تعالى مثلا كما قال تعالى : ( للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ) [ النحل : 60 ] فقال : (ومثل الذين كفروا) أي : فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها ، بل إذا نعق بها راعيها ، أي : دعاها إلى ما يرشدها ، لا تفقه ما يقول ولا تفهمه ، بل إنما تسمع صوته فقط .
هكذا روي عن ابن عباس ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، وعطاء الخراساني والربيع بن أنس ، نحو هذا .
وقيل : إنما هذا مثل ضرب لهم في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئا ، اختاره ابن جرير ، والأول أولى ; لأن الأصنام لا تسمع شيئا ولا تعقله ولا تبصره ، ولا بطش لها ولا حياة فيها . وقوله : ( صم بكم عمي ) أي : صم عن سماع الحق ، بكم لا يتفوهون به ، عمي عن رؤية طريقه ومسلكه ( فهم لا يعقلون ) أي : لا يعقلون شيئا ولا يفهمونه ، كما قال تعالى : ( والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ) [الأنعام : 39 ] .
109
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( 172 ) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 173 ) 

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَكْلِ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقَهُمْ تَعَالَى ، وَأَنْ يَشْكُرُوهُ عَلَى ذَلِكَ ، إِنْ كَانُوا عَبِيدَهُ ، وَالْأَكْلُ مِنَ الْحَلَالِ سَبَبٌ لِتَقَبُّلِ الدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ ، كَمَا أَنَّ الْأَكْلَ مِنَ الْحَرَامِ يَمْنَعُ قَبُولَ الدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ :
حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ ، حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [ ص: 481 ] قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيَّبًا ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ، فَقَالَ : ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحٍا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) [ الْمُؤْمِنُونَ : 51 ] وَقَالَ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ : يَا رَبِّ ، يَا رَبِّ ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ " .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ [ فُضَيْلِ ] بْنِ مَرْزُوقٍ . وَلَمَّا امْتَنَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِرِزْقِهِ ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الْأَكْلِ مِنْ طَيِّبِهِ ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا الْمِيتَةَ ، وَهِيَ التِي تَمُوتُ حَتْفَ أَنْفِهَا مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَةٍ ، وَسَوَاءً كَانَتْ مُنْخَنِقَةً أَوْ مَوْقُوذَةً أَوْ مُتَرَدِّيَةً أَوْ نَطِيحَةً أَوْ قَدْ عَدَا عَلَيْهَا السَّبُعَ .
وَقَدْ خَصَّصَ الْجُمْهُورُ مِنْ ذَلِكَ مَيْتَةَ الْبَحْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ) [ الْمَائِدَةِ : 96 ] عَلَى مَا سَيَأْتِي ، وَحَدِيثُ الْعَنْبَرِ فِي الصَّحِيحِ ، وَفِي الْمُسْنَدِ وَالْمُوَطَّأِ وَالسُّنَنِ قَوْلُهُ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فِي الْبَحْرِ : " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا : " أُحِلَّ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ : السَّمَكُ وَالْجَرَادُ ، وَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ " وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ .
وَلَبَنُ الْمَيْتَةِ وَبَيْضُهَا الْمُتَّصِلُ بِهَا نَجِسٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا . وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ : هُوَ طَاهِرٌ إِلَّا أَنَّهُ يَنْجُسُ بِالْمُجَاوَرَةِ ، وَكَذَلِكَ أَنْفِحَةُ الْمَيْتَةِ فِيهَا الْخِلَافُ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا نَجِسَةٌ ، وَقَدْ أَوْرَدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَكْلَ الصَّحَابَةِ مِنْ جُبْنِ الْمَجُوسِ ، فَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ هَاهُنَا : يُخَالِطُ اللَّبَنَ مِنْهَا يَسِيرٌ ، وَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِ النَّجَاسَةِ إِذَا خَالَطَ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَائِعِ . وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سَيْفِ بْنِ هَارُونَ ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ ، عَنْ سَلْمَانَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ ، فَقَالَ : " الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ " .
وَكَذَلِكَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ ، سَوَاءٌ ذُكِّيَ أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ ، وَيَدْخُلُ شَحْمُهُ فِي حُكْمِ لَحْمِهِ إِمَّا تَغْلِيبًا أَوْ أَنَّ اللَّحْمَ يَشْمَلُ ذَلِكَ ، أَوْ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَى رَأْيٍ . وَ [ كَذَلِكَ ] حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَهُوَ مَا ذُبِحَ عَلَى غَيْرِ اسْمِهِ تَعَالَى مِنَ الْأَنْصَابِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَزْلَامِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ [ ص: 482 ] مِمَّا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ يَنْحَرُونَ لَهُ . [ وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّهُ نَقَلَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ امْرَأَةٍ عَمِلَتْ عُرْسًا لِلَعِبِهَا فَنَحَرَتْ فِيهِ جَزُورًا فَقَالَ : لَا تُؤَكَّلُ لِأَنَّهَا ذُبِحَتْ لِصَنَمٍ ; وَأَوْرَدَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَمَّا يَذْبَحُهُ الْعَجَمُ فِي أَعْيَادِهِمْ فَيُهْدُونَ مِنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَتْ : مَا ذُبِحَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَا تَأْكُلُوهُ ، وَكُلُوا مِنْ أَشْجَارِهِمْ ] . ثُمَّ أَبَاحَ تَعَالَى تَنَاوُلَ ذَلِكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالِاحْتِيَاجِ إِلَيْهَا ، عِنْدَ فَقْدِ غَيْرِهَا مِنَ الْأَطْعِمَةِ ، فَقَالَ : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ ) أَيْ : فِي غَيْرِ بَغْيٍ وَلَا عُدْوَانٍ ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ ( فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) أَيْ : فِي أَكْلِ ذَلِكَ ) إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ ، قَاطِعًا لِلسَّبِيلِ ، أَوْ مُفَارِقًا لِلْأَئِمَّةِ ، أَوْ خَارِجًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ ، فَلَهُ الرُّخْصَةُ ، وَمَنْ خَرَجَ بَاغِيًا أَوْ عَادِيًا أَوْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا رُخْصَةَ لَهُ ، وَإِنِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ .
وَقَالَ سَعِيدٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ : غَيْرَ بَاغٍ : يَعْنِي غَيْرَ مُسْتَحِلِّهِ . وَقَالَ السُّدِّيُّ : غَيْرَ بَاغٍ يَبْتَغِي فِيهِ شَهْوَتَهُ ، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ فِي قَوْلِهِ : ( غَيْرَ بَاغٍ ) [ قَالَ ] لَا يَشْوِي مِنَ الْمِيتَةِ لِيَشْتَهِيَهُ وَلَا يَطْبُخُهُ ، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا الْعَلَقَةَ ، وَيَحْمِلُ مَعَهُ مَا يُبَلِّغُهُ الْحَلَالَ ، فَإِذَا بَلَغَهُ أَلْقَاهُ [ وَهُوَ قَوْلُهُ : ( وَلَا عَادٍ ) يَقُولُ : لَا يَعْدُو بِهِ الْحَلَالَ ] .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : لَا يَشْبَعُ مِنْهَا . وَفَسَّرَهُ السُّدِّيُّ بِالْعُدْوَانِ . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ( غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ ) قَالَ : ( غَيْرَ بَاغٍ ) فِي الْمَيْتَةِ ( وَلَا عَادٍ ) فِي أَكْلِهِ . وَقَالَ قَتَادَةُ : فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فِي أَكْلِهِ : أَنْ يَتَعَدَّى حَلَالًا إِلَى حَرَامٍ ، وَهُوَ يَجِدُ عَنْهُ مَنْدُوحَةً .
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ : ( فَمَنِ اضْطُرَّ ) أَيْ : أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ .
مَسْأَلَةٌ : ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ إِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَطَعَامَ الْغَيْرِ بِحَيْثُ لَا قَطْعَ فِيهِ وَلَا أَذًى ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ بَلْ يَأْكُلُ طَعَامَ الْغَيْرِ بِلَا خِلَافٍ . كَذَا قَالَ ، ثُمَّ قَالَ : وَإِذَا أَكَلَهُ ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ ، هَلْ يَضْمَنُهُ أَمْ لَا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ ، ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِيَاسٍ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ : سَمِعْتُ عَبَّادَ بْنَ الْعَنْزِيِّ قَالَ : أَصَابَتْنَا عَامًا مَخْمَصَةٌ ، فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ . فَأَتَيْتُ حَائِطًا ، فَأَخَذْتُ سُنْبُلًا فَفَرَكْتُهُ وَأَكَلْتُهُ ، وَجَعَلْتُ مِنْهُ فِي كِسَائِي ، فَجَاءَ صَاحِبُ الْحَائِطِ فَضَرَبَنِي وَأَخَذَ ثَوْبِي ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ لِلرَّجُلِ : " مَا أَطْعَمْتَهُ إِذْ كَانَ جَائِعًا أَوْ سَاعِيًا ، وَلَا عَلَّمْتَهُ إِذْ كَانَ جَاهِلَا " . فَأَمَرَهُ فَرَدَّ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ ، وَأَمَرَ لَهُ بِوَسْقٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ نِصْفِ وَسْقٍ ، إِسْنَادٌ صَحِيحٌ قَوِيٌّ جَيِّدٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ : مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ ، فَقَالَ : " مَنْ أَصَابَ مِنْهُ مِنْ ذِي حَاجَةٍ بِفِيهِ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ" الْحَدِيث[ ص: 483 ]
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ :(فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فِيمَا أَكَلَ مِنَ اضْطِرَارٍ،وَبَلَغَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى ثَلَاثِ لُقَمٍ
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : غَفُورٌ لِمَا أَكَلَ مِنَ الْحَرَامِ . رَحِيمٌ إِذْ أَحَلَّ لَهُ الْحَرَامَ فِي الِاضْطِرَارِ .
وَقَالَ وَكِيعٌ : حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ ، عَنْ أَبِي الضُّحَى ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : مَنِ اضْطُرَّ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ ، ثُمَّ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ .
[ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ عَزِيمَةٌ لَا رُخْصَةٌ . قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْكَيَا الْهَرَّاسِيِّ رَفِيقُ الْغَزَّالِيِّ فِي الِاشْتِغَالِ : وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا ; كَالْإِفْطَارِ لِلْمَرِيضِ فِي رَمَضَانَ وَنَحْوَ ذَلِكَ ] .
110
( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 174 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ( 175 ) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( 176 ) 

يَقُولُ تَعَالَى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ) [ مِمَّا يُشْهَدُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ ] ( مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ) يَعْنِي الْيَهُودَ الَّذِينَ كَتَمُوا صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُتُبِهِمُ التِي بِأَيْدِيهِمْ ، مِمَّا تَشْهَدُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ ، فَكَتَمُوا ذَلِكَ لِئَلَّا تَذْهَبَ رِيَاسَتُهُمْ وَمَا كَانُوا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الْعَرَبِ مِنَ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ عَلَى تَعْظِيمِهِمْ إِيَّاهُمْ ، فَخَشُوا لَعَنَهُمُ اللَّهُ إِنْ أَظْهَرُوا ذَلِكَ أَنْ يَتَّبِعَهُ النَّاسُ وَيَتْرُكُوهُمْ ، فَكَتَمُوا ذَلِكَ إِبْقَاءً عَلَى مَا كَانَ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ نَزْرٌ يَسِيرٌ ، فَبَاعُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ ، وَاعْتَاضُوا عَنِ الْهُدَى وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ وَالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ بِذَلِكَ النَّزْرِ الْيَسِيرِ ، فَخَابُوا وَخَسِرُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ لِعِبَادِهِ صِدْقَ رَسُولِهِ ، بِمَا نَصَبَهُ وَجَعَلَهُ مَعَهُ مِنَ الْآيَاتِ الظَّاهِرَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَاتِ ، فَصَدَّقَهُ الَّذِينَ كَانُوا يَخَافُونَ أَنْ يَتَّبِعُوهُ ، وَصَارُوا عَوْنًا لَهُ عَلَى قِتَالِهِمْ ، وَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ، وَذَمَّهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . مِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ) وَهُوَ عَرَضُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ( أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ) أَيْ : إِنَّمَا يَأْكُلُونَ مَا يَأْكُلُونَهُ فِي مُقَابَلَةِ كِتْمَانِ الْحَقِّ نَارًا تَأَجَّجُ فِي بُطُونِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ) [ النِّسَاءِ : 10 ] وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " الَّذِي يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ [ ص: 484 ] وَالْفِضَّةِ ، إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ " .
وَقَوْلُهُ :(وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وَذَلِكَ لِأَنَّهُ غَضْبَانُ عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّهُمْ كَتَمُوا وَقَدْ عَلِمُوا ، فَاسْتَحَقُّوا الْغَضَبَ ، فَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ، أَيْ يُثْنِي عَلَيْهِمْ وَيَمْدَحُهُمْ بَلْ يُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا .
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ هَاهُنَا [ الْحَدِيثَ الذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ ] حَدِيثِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ [ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ] شَيْخٌ زَانٍ ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ " .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ) أَيِ : اعْتَاضُوا عَنِ الْهُدَى ، وَهُوَ نَشْرُ مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ الرَّسُولِ وَذِكْرِ مَبْعَثِهِ وَالْبِشَارَةِ بِهِ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَاتِّبَاعِهِ وَتَصْدِيقِهِ ، اسْتَبْدَلُوا عَنْ ذَلِكَ وَاعْتَاضُوا عَنْهُ بِالضَّلَالَةِ ، وَهُوَ تَكْذِيبُهُ وَالْكُفْرُ بِهِ وَكِتْمَانُ صِفَاتِهِ فِي كُتُبِهِمْ ( وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ) أَيِ : اعْتَاضُوا عَنِ الْمَغْفِرَةِ بِالْعَذَابِ وَهُوَ مَا تَعَاطَوْهُ مِنْ أَسْبَابِهِ الْمَذْكُورَةِ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُمْ فِي عَذَابٍ شَدِيدٍ عَظِيمٍ هَائِلٍ ، يَتَعَجَّبُ مَنْ رَآهُمْ فِيهَا مِنْ صَبْرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ ، مَعَ شِدَّةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ ، وَالنَّكَالِ ، وَالْأَغْلَالِ عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ .
[ وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ : ( فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) أَيْ : مَا أَدْوَمَهُمْ لِعَمَلِ الْمَعَاصِي التِي تُفْضِي بِهِمْ إِلَى النَّارِ ] .
وَقَوْلُهُ : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) أَيْ : إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا هَذَا الْعَذَابَ الشَّدِيدَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ كُتُبَهُ بِتَحْقِيقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ ، وَهَؤُلَاءِ اتَّخَذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ، فَكِتَابُهُمْ يَأْمُرُهُمْ بِإِظْهَارِ الْعِلْمِ وَنَشْرِهِ ، فَخَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ . وَهَذَا الرَّسُولُ الْخَاتَمُ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَهُمْ يُكَذِّبُونَهُ وَيُخَالِفُونَهُ وَيَجْحَدُونَهُ ، وَيَكْتُمُونَ صِفَتَهُ ، فَاسْتَهْزَأُوا بِآيَاتِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رُسُلِهِ ; فَلِهَذَا اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ وَالنَّكَالَ ; وَلِهَذَا قَالَ : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) .
111
[ص:485]( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( 177 ) 

اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ ، عَلَى جُمَلٍ عَظِيمَةٍ ، وَقَوَاعِدَ عَمِيمَةٍ ، وَعَقِيدَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ هِشَامٍ الْحَلَبِيُّ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ، عَنْ عَامِرِ بْنِ شُفَيٍّ ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ : أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا الْإِيمَانُ ؟ فَتَلَا عَلَيْهِ : ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ . قَالَ : ثُمَّ سَأَلَهُ أَيْضًا ، فَتَلَاهَا عَلَيْهِ ثُمَّ سَأَلَهُ . فَقَالَ : " إِذَا عَمِلْتَ حَسَنَةً أَحَبَّهَا قَلْبُكَ ، وَإِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً أَبْغَضَهَا قَلْبُكَ " .
وَهَذَا مُنْقَطِعٌ ; فَإِنَّ مُجَاهِدًا لَمْ يُدْرِكْ أَبَا ذَرٍّ ; فَإِنَّهُ مَاتَ قَدِيمًا .
وَقَالَ الْمَسْعُودِيُّ : حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي ذَرٍّ ، فَقَالَ : مَا الْإِيمَانُ ؟ فَقَرَأَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ : ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ) حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا . فَقَالَ الرَّجُلُ : لَيْسَ عَنِ الْبَرِّ سَأَلْتُكَ . فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ ، فَأَبَى أَنْ يَرْضَى كَمَا أَبَيْتَ [أَنْتَ] أَنْ تَرْضَى فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشَارَ بِيَدِهِ : " الْمُؤْمِنُ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً سَرَّتْهُ وَرَجَا ثَوَابَهَا ، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً أَحْزَنَتْهُ وَخَافَ عِقَابَهَا " .
رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ ، وَهَذَا أَيْضًا مُنْقَطِعٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوَّلًا بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ حَوَّلَهُمْ إِلَى الْكَعْبَةِ ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى نُفُوسِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَ حِكْمَتِهِ فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّمَا هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَامْتِثَالُ أَوَامِرِهِ ، وَالتَّوَجُّهُ حَيْثُمَا وَجَّهَ ، وَاتِّبَاعُ مَا شَرَعَ ، فَهَذَا هُوَ الْبِرُّ وَالتَّقْوَى وَالْإِيمَانُ الْكَامِلُ ، وَلَيْسَ فِي لُزُومِ التَّوَجُّهِ إِلَى جِهَةٍ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ بِرٌّ وَلَا طَاعَةٌ ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ : ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) الْآيَةَ ، كَمَا قَالَ فِي الْأَضَاحِيِّ وَالْهَدَايَا : ( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ )[الْحَجِّ : 37] 
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : لَيْسَ الْبَرَّ أَنْ تُصَلُّوا وَلَا تَعْمَلُوا . فَهَذَا حِينَ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَنَزَلَتِ الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِالْفَرَائِضِ وَالْعَمَلِ بِهَا[ ص: 486]
وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ نَحْوَ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : كَانَتِ الْيَهُودُ تُقْبِلُ قِبَلَ الْمَغْرِبِ ، وَكَانَتِ النَّصَارَى تُقْبِلُ قِبَلَ الْمَشْرِقِ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) يَقُولُ : هَذَا كَلَامُ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَتُهُ الْعَمَلُ . وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ مِثْلُهُ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَا ثَبَتَ فِي الْقُلُوبِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ : وَلَكِنَّ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى أَنْ تُؤَدُّوا الْفَرَائِضَ عَلَى وُجُوهِهَا .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : ( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ) الْآيَةَ ، قَالَ : هَذِهِ أَنْوَاعُ الْبِرِّ كُلُّهَا . وَصَدَقَ رَحِمَهُ اللَّهُ ; فَإِنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، فَقَدْ دَخَلَ فِي عُرَى الْإِسْلَامِ كُلِّهَا ، وَأَخَذَ بِمَجَامِعِ الْخَيْرِ كُلِّهِ ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، وَصَدَّقَ بِوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ سَفَرَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ) وَالْكِتَابِ ) وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ، حَتَّى خُتِمَتْ بِأَشْرَفِهَا ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمُهَيْمِنُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ ، الذِي انْتَهَى إِلَيْهِ كُلُّ خَيْرٍ ، وَاشْتَمَلَ عَلَى كُلِّ سَعَادَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَنَسَخَ [ اللَّهُ ] بِهِ كُلَّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَهُ ، وَآمَنَ بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ كُلِّهِمْ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
وَقَوْلُهُ : ( وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ) أَيْ : أَخْرَجَهُ ، وَهُوَ مُحِبٌّ لَهُ ، رَاغِبٌ فِيهِ . نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا : " أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ ، تَأْمُلُ الْغِنَى ، وَتَخْشَى الْفَقْرَ " .
وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَالثَّوْرِيِّ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ زُبَيْدٍ ، عَنْ مُرَّةَ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ) أَنْ تُعْطِيَهُ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ ، تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ " . ثُمَّ قَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ .
قُلْتُ : وَقَدْ رَوَاهُ وَكِيعٌ عَنِ الْأَعْمَشِ ، وَسُفْيَانَ عَنْ زُبَيْدٍ ، عَنْ مُرَّةَ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، مَوْقُوفًا ، وَهُوَ أَصَحُّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ تَعَالَى : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)[الْإِنْسَانِ : 8 ، 9 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) [ آلِ عِمْرَانَ : 92 ] وَقَوْلُهُ : ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) [ الْحَشْرِ : 9 ] نَمَطٌ آخَرُ أَرْفَعُ مِنْ هَذَا [ وَمِنْ هَذَا ] وَهُوَ أَنَّهُمْ آثَرُوا بِمَا هُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَيْهِ ، وَهَؤُلَاءِ أَعْطَوْا وَأَطْعَمُوا مَا هُمْ مُحِبُّونَ لَهُ .
وَقَوْلُهُ : ( ذَوِي الْقُرْبَى ) وَهُمْ : قَرَابَاتُ الرَّجُلِ ، وَهُمْ أَوْلَى مَنْ أَعْطَى مِنَ الصَّدَقَةِ ، كَمَا ثَبَتَ فِي [ ص: 487 ] الْحَدِيثِ : " الصَّدَقَةُ عَلَى الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ ، وَعَلَى ذَوِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ : صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ " . فَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِكَ وَبِبِرِّكَ وَإِعْطَائِكَ . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ .
( وَالْيَتَامَى ) هُمُ : الَّذِينَ لَا كَاسِبَ لَهُمْ ، وَقَدْ مَاتَ آبَاؤُهُمْ وَهُمْ ضُعَفَاءُ صِغَارٌ دُونَ الْبُلُوغِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّكَسُّبِ ، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ ، عَنْ جُوَيْبِرٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ ، عَنْ عَلِيٍّ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ " .
( وَالْمَسَاكِينَ ) وَهُمُ : الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يَكْفِيهِمْ فِي قُوتِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ وَسُكْنَاهُمْ ، فَيُعْطُونَ مَا تُسَدُّ بِهِ حَاجَتُهُمْ وَخَلَّتُهُمْ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَاللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ .
( وَابْنَ السَّبِيلِ ) وَهُوَ : الْمُسَافِرُ الْمُجْتَازُ الذِي قَدْ فَرَغَتْ نَفَقَتُهُ فَيُعْطَى مَا يُوصِلُهُ إِلَى بَلَدِهِ ، وَكَذَا الذِي يُرِيدُ سَفَرًا فِي طَاعَةٍ ، فَيُعْطَى مَا يَكْفِيهِ فِي ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الضَّيْفُ ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : ابْنُ السَّبِيلِ هُوَ الضَّيْفُ الذِي يَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالضَّحَّاكُ وَالزُّهْرِيُّ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ .
( وَالسَّائِلِينَ ) وَهُمُ : الَّذِينَ يَتَعَرَّضُونَ لِلطَّلَبِ فَيُعْطَوْنَ مِنَ الزِّكْوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ :
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ، قَالَا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أَبِي يَحْيَى ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ ، عَنْ أَبِيهَا - قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ " . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ .
( وَفِي الرِّقَابِ ) وَهُمُ : الْمُكَاتَبُونَ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُؤَدُّونَهُ فِي كِتَابَتِهِمْ .
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ مِنْ بَرَاءَةٍ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ : أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَفِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ ؟ قَالَتْ : فَتَلَا عَلِيَّ ( وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ) .
وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ ، وَيَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ ، كِلَاهُمَا ، عَنْ شَرِيكٍ ، [ ص: 488 ] عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ " ثُمَّ تَلَا ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) إِلَى قَوْلِهِ : ( وَفِي الرِّقَابِ )
[ وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَ أَبَا حَمْزَةَ مَيْمُونًا الْأَعْوَرَ ، قَالَ : وَقَدْ رَوَاهُ بَيَانٌ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ ] .
وَقَوْلُهُ : ( وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ) أَيْ : وَأَتَمَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا بِرُكُوعِهَا ، وَسُجُودِهَا ، وَطُمَأْنِينَتِهَا ، وَخُشُوعِهَا عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمَرْضِيِّ .
وَقَوْلُهُ : ( وَآتَى الزَّكَاةَ ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ زَكَاةَ النَّفْسِ ، وَتَخْلِيصَهَا مِنَ الْأَخْلَاقِ الدَّنِيَّةِ الرَّذِيلَةِ ، كَقَوْلِهِ : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) [ الشَّمْسِ : 9 ، 10 ] وَقَوْلُ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ : ( هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ) [ النَّازِعَاتِ : 18 ، 19 ] وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) [ فُصِّلَتْ : 6 ، 7 ] .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ زَكَاةَ الْمَالِ كَمَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ ، وَيَكُونُ الْمَذْكُورُ مِنْ إِعْطَاءِ هَذِهِ الْجِهَاتِ وَالْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ إِنَّمَا هُوَ التَّطَوُّعُ وَالْبِرُّ وَالصِّلَةُ ; وَلِهَذَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ : أَنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ) كَقَوْلِهِ : ( الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ) [ الرَّعْدِ : 20 ] وَعَكْسُ هَذِهِ الصِّفَةِ النِّفَاقُ ، كَمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ : " آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ " . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : " إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ " .
وَقَوْلُهُ : ( وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ) أَيْ : فِي حَالِ الْفَقْرِ ، وَهُوَ الْبَأْسَاءُ ، وَفِي حَالِ الْمَرَضِ وَالْأَسْقَامِ ، وَهُوَ الضَّرَّاءُ . ( وَحِينَ الْبَأْسِ ) أَيْ : فِي حَالِ الْقِتَالِ وَالْتِقَاءِ الْأَعْدَاءِ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَمُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ ، وَأَبُو مَالِكٍ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَغَيْرُهُمْ وَإِنَّمَا نُصِبَ ( وَالصَّابِرِينَ ) عَلَى الْمَدْحِ وَالْحَثِّ عَلَى الصَّبْرِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ لِشِدَّتِهِ وَصُعُوبَتِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانَ .
وَقَوْلُهُ : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ) أَيْ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ هُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ حَقَّقُوا الْإِيمَانَ الْقَلْبِيَّ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) [ ص: 489 ] لِأَنَّهُمُ اتَّقَوُا الْمَحَارِمَ وَفَعَلُوا الطَّاعَاتِ .


112
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 178 ) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 179 )

يَقُولُ تَعَالَى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ ) الْعَدْلُ فِي الْقِصَاصِ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ حُرُّكُمْ بَحُرِّكُمْ ، وَعَبْدُكُمْ بِعَبْدِكُمْ ، وَأُنْثَاكُمْ بِأُنْثَاكُمْ ، وَلَا تَتَجَاوَزُوا وَتَعْتَدُوا ، كَمَا اعْتَدَى مَنْ قَبْلَكُمْ وَغَيَّرُوا حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ ، وَسَبَبُ ذَلِكَ قُرَيْظَةُ وَ [ بَنُو ] النَّضِيرِ ، كَانَتْ بَنُو النَّضِيرِ قَدْ غَزَتْ قُرَيْظَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَهَرُوهُمْ ، فَكَانَ إِذَا قَتَلَ النَّضَرِيُّ الْقُرَظِيَّ لَا يُقْتَلُ بِهِ ، بَلْ يُفَادَى بِمِائَةِ وَسْقٍ مِنَ التَّمْرِ ، وَإِذَا قَتَلَ الْقُرَظِيُّ النَّضَرِيَّ قُتِلَ بِهِ ، وَإِنْ فَادَوْهُ فَدَوْهُ بِمِائَتَيْ وَسْقٍ مِنَ التَّمْرِ ضِعْفِ دِيَةِ الْقُرَظِيِّ ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِالْعَدْلِ فِي الْقِصَاصِ ، وَلَا يَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ الْمُحَرِّفِينَ ، الْمُخَالَفِينَ لِأَحْكَامِ اللَّهِ فِيهِمْ ، كُفْرًا وَبَغْيًا ، فَقَالَ تَعَالَى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ) .
وَذُكِرِ فِي [ سَبَبِ ] نُزُولَهَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ) يَعْنِي : إِذَا كَانَ عَمْدًا ، الْحُرُّ بِالْحُرِّ . وَذَلِكَ أَنَّ حَيَّيْنِ مِنَ الْعَرَبِ اقْتَتَلُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِقَلِيلٍ ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ قَتْلٌ وَجِرَاحَاتٌ ، حَتَّى قَتَلُوا الْعَبِيدَ وَالنِّسَاءَ ، فَلَمْ يَأْخُذْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى أَسْلَمُوا ، فَكَانَ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ يَتَطَاوَلُ عَلَى الْآخَرِ فِي الْعُدَّةِ وَالْأَمْوَالِ ، فَحَلَفُوا أَلَّا يَرْضَوْا حَتَّى يُقْتَلَ بِالْعَبْدِ مِنَّا الْحُرُّ مِنْهُمْ ، وَبِالْمَرْأَةِ مِنَّا الرَّجُلُ مِنْهُمْ ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ .
( الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ) مِنْهَا مَنْسُوخَةٌ ، نَسَخَتْهَا ( النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) [ الْمَائِدَةِ : 45 ] .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : ( وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ) وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالْمَرْأَةِ ، وَلَكِنْ يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالرَّجُلِ ، وَالْمَرْأَةَ بِالْمَرْأَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ ، فَجَعَلَ الْأَحْرَارَ فِي الْقِصَاصِ سَوَاءً فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَمْدِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ فِي النَّفْسِ ، وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، وَجَعَلَ الْعَبِيدَ مُسْتَوِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ رِجَالُهُمْ [ ص: 490 ] وَنِسَاؤُهُمْ ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ : ( النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) .
مَسْأَلَةٌ : مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ لِعُمُومِ آيَةِ الْمَائِدَةِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَدَاوُدُ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَقَتَادَةَ ، وَالْحَكَمِ ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ ، وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : وَيُقْتَلُ السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ ; لِعُمُومِ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ : " مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ ، وَمَنْ جَذَعَهُ جَذَعْنَاهُ ، وَمَنْ خَصَاهُ خَصَيْنَاهُ " وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ وَقَالُوا : لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ ; لِأَنَّ الْعَبْدَ سِلْعَةٌ لَوْ قُتِلَ خَطَأً لَمْ تَجِبْ فِيهِ دِيَةٌ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهِ قِيمَتُهُ ، وَأَنَّهُ لَا يُقَادُ بِطَرَفِهِ فَفِي النَّفْسِ بِطَرِيقِ أَوْلَى ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالْكَافِرِ ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَلِيٍّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ " وَلَا يَصِحُّ حَدِيثٌ وَلَا تَأْوِيلٌ يُخَالَفُ هَذَا ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ لِعُمُومِ آيَةِ الْمَائِدَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ : لَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ لِآيَةِ الْمَائِدَةِ ; وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ " وَقَالَ اللَّيْثُ : إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لَا يُقْتَلُ بِهَا خَاصَّةً .
مَسْأَلَةٌ : وَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْجُمْهُورِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ يُقْتَلُونَ بِالْوَاحِدِ ; قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي غُلَامٍ قَتَلَهُ سَبْعَةٌ فَقَتَلَهُمْ ، وَقَالَ : لَوْ تَمَالْأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فِي زَمَانِهِ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَذَلِكَ كَالْإِجْمَاعِ . وَحُكِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ : أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا يُقْتَلُونَ بِالْوَاحِدِ ، وَلَا يَقْتُلُ بِالنَّفْسِ إِلَّا نَفْسٌ وَاحِدَةٌ . وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُعَاذٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَالزُّهْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ ; ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَهَذَا أَصَحُّ ، وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ أَبَاحَ قَتْلَ الْجَمَاعَةِ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فَسَبِيلُهُ النَّظَرُ .
وَقَوْلُهُ : ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) قَالَ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ) فَالْعَفْوُ : أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ) يَقُولُ : فَمَنْ تُرِكَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ يَعْنِي : [ بَعْدَ ] أَخْذِ الدِّيَةِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الدَّمِ ، وَذَلِكَ الْعَفْوُ ( فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ) يَقُولُ : فَعَلَى الطَّالِبِ اتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا قَبِلَ الدِّيَةَ ( وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) يَعْنِي : مِنَ الْقَاتِلِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَلَا مَعْكٍ ، يَعْنِي : الْمُدَافَعَةُ .
وَرَوَى الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ ، عَنْ عَمْرٍو ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : وَيُؤَدِّي الْمَطْلُوبَ [ ص: 491 ] بِإِحْسَانٍ . وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : لَيْسَ لِوَلِيِّ الدَّمِ أَنْ يَعْفُوَ عَلَى الدِّيَةِ إِلَّا بِرِضَا الْقَاتِلِ ، وَقَالَ الْبَاقُونَ : لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الْقَاتِلُ ، وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلنِّسَاءِ عَفْوٌ ، مِنْهُمُ الْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَاللَّيْثُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَخَالَفَهُمُ الْبَاقُونَ .
وَقَوْلُهُ : ( ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ) يَقُولُ تَعَالَى : إِنَّمَا شَرَعَ لَكُمْ أَخْذَ الدِّيَةِ فِي الْعَمْدِ تَخْفِيفًا مِنَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةً بِكُمْ ، مِمَّا كَانَ مَحْتُومًا عَلَى الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْقَتْلِ أَوِ الْعَفْوِ ، كَمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ :
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، أَخْبَرَنِي مُجَاهِدٌ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كُتِبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَّاصُ فِي الْقَتْلَى ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الْعَفْوُ ، فَقَالَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ) فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ ، ذَلِكَ تَخْفِيفٌ [ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ] مِمَّا كُتِبَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ .
وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَمْرِو [ بْنِ دِينَارٍ ] وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، بِهِ . [ وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ] ; وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، بِنَحْوِهِ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : ( ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) رَحِمَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَأَطْعَمَهُمُ الدِّيَةَ ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُمْ ، فَكَانَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ إِنَّمَا هُوَ الْقِصَاصُ وَعَفْوٌ لَيْسَ بَيْنَهُمْ أَرْشٌ وَكَانَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ إِنَّمَا هُوَ عَفْوٌ أُمِرُوا بِهِ ، وَجَعَلَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْقِصَاصَ وَالْعَفْوَ وَالْأَرْشَ .
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، نَحْوُ هَذَا .
وَقَوْلُهُ : ( فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) يَقُولُ تَعَالَى : فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ أَوْ قَبُولِهَا ، فَلَهُ عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ أَلِيمٌ مُوجِعٌ شَدِيدٌ .
وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَالْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، وَالسُّدِّيِّ ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ : أَنَّهُ هُوَ الذِي يُقْتَلُ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ ، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ فُضَيْلٍ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ [ص:492]
" مَنْ أُصِيبَ بِقَتْلٍ أَوْ خَبَلٍ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ إِحْدَى ثَلَاثٍ : إِمَّا أَنْ يَقْتَصَّ ، وَإِمَّا أَنْ يَعْفُوَ ، وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ ; فَإِنْ أَرَادَ الرَّابِعَةَ فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ . وَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ نَارُ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا " رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ سَمُرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا أُعَافِي رَجُلًا قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ " يَعْنِي : لَا أَقْبَلُ مِنْهُ الدِّيَةَ بَلْ أَقْتُلُهُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) يَقُولُ تَعَالَى : وَفِي شَرْعِ الْقِصَاصِ لَكُمْ وَهُوَ قَتْلُ الْقَاتِلِ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ لَكُمْ ، وَهِيَ بَقَاءُ الْمُهَجِ وَصَوْنُهَا ; لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ الْقَاتِلُ أَنَّهُ يُقْتَلُ انْكَفَّ عَنْ صَنِيعِهِ ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ حَيَاةُ النُّفُوسِ . وَفِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ : الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ . فَجَاءَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ فِي الْقُرْآنِ أَفْصَحُ ، وَأَبْلَغُ ، وَأَوْجَزُ .
( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : جَعَلَ اللَّهُ الْقِصَاصَ حَيَاةً ، فَكَمْ مِنْ رَجُلٍ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَ ، فَتَمْنَعُهُ مَخَافَةَ أَنْ يُقْتَلَ .
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَأَبِي مَالِكٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ ، ( يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) يَقُولُ : يَا أُولِي الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ وَالنُّهَى ، لَعَلَّكُمْ تَنْزَجِرُونَ فَتَتْرُكُونَ مَحَارِمَ اللَّهِ وَمَآثِمَهُ ، وَالتَّقْوَى : اسْمٌ جَامِعٌ لِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكِرَاتِ .
113
( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ( 180 ) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 181 )  

( فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 182 )
اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ . وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ نَسَخَتْ هَذِهِ ، وَصَارَتِ الْمَوَارِيثُ الْمُقَدَّرَةُ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ، يَأْخُذُهَا أَهْلُوهَا حَتْمًا مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ وَلَا تَحْمِلُ مِنَّةَ الْمُوصِي ، وَلِهَذَا جَاءَ الْحَدِيثُ فِي السُّنَنِ وَغَيْرِهَا عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ وَهُوَ يَقُولُ : " إِنِ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُلَيَّةَ ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ [ ص: 493 ] سِيرِينَ ، قَالَ : جَلَسَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ حَتَّى أَتَى [ عَلَى ] هَذِهِ الْآيَةِ : (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ) فَقَالَ : نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
وَكَذَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ، عَنْ هُشَيْمٍ ، عَنْ يُونُسَ ، بِهِ . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : ( الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ) قَالَ : كَانَ لَا يَرْثُ مَعَ الْوَالِدَيْنِ غَيْرُهُمَا إِلَّا وَصِيَّةً لِلْأَقْرَبِينَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْمِيرَاثِ فَبَيَّنَ مِيرَاثَ الْوَالِدَيْنِ ، وَأَقَرَّ وَصِيَّةَ الْأَقْرَبِينَ فِي ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ،فِي قَوْلِهِ :(الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) نَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ :( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ) [ النِّسَاءِ : 7 ] .
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنِ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَالسُّدِّيِّ ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ ، وَطَاوُسٍ ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَشُرَيْحٍ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَالزُّهْرِيِّ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمِيرَاثِ .
وَالْعَجَبُ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الرَّازِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَيْفَ حَكَى فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ مُفَسَّرَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ ، وَمَعْنَاهُ : كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا أَوْصَى اللَّهُ بِهِ مِنْ تَوْرِيثِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ . مِنْ قَوْلِهِ : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ) [ النِّسَاءِ : 11 ] قَالَ : وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُعْتَبَرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ . قَالَ : وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فِيمَنْ يَرِثُ ، ثَابِتَةٌ فِيمَنْ لَا يَرِثُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَمَسْرُوقٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَمُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ ، وَالْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ .
قُلْتُ : وَبِهِ قَالَ أَيْضًا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ . وَلَكِنْ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ لَا يُسَمَّى هَذَا نَسْخًا فِي اصْطِلَاحِنَا الْمُتَأَخِّرِ ; لِأَنَّ آيَةَ الْمِيرَاثِ إِنَّمَا رَفَعَتْ حُكْمَ بَعْضِ أَفْرَادِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ آيَةِ الْوِصَايَةِ ، لِأَنَّ " الْأَقْرَبِينَ " أَعَمُّ مِمَّنْ يَرِثُ وَمَنْ لَا يَرِثُ ، فَرُفِعَ حُكْمُ مَنْ يَرْثُ بِمَا عُيِّنَ لَهُ ، وَبَقِيَ الْآخَرُ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْأُولَى . وَهَذَا إِنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ : أَنَّ الْوِصَايَةَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ إِنَّمَا كَانَتْ نَدْبًا حَتَّى نُسِخَتْ . فَأَمَّا مَنْ يَقُولُ : إِنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ [ ص: 494 ] سِيَاقِ الْآيَةِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ الْمِيرَاثِ ، كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُعْتَبَرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ ; فَإِنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [ الْوَارِثِينَ ] مَنْسُوخٌ بِالْإِجْمَاعِ . بَلْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ : " إِنِ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " . فَآيَةُ الْمِيرَاثِ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ ، وَوُجُوبٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَهْلِ الْفُرُوضِ وَلِلْعَصِبَاتِ ، رَفَعَ بِهَا حُكْمَ هَذِهِ بِالْكُلِّيَّةِ . بَقِيَ الْأَقَارِبُ الَّذِينَ لَا مِيرَاثَ لَهُمْ ، يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُوصَى لَهُمْ مِنَ الثُّلُثِ ، اسْتِئْنَاسًا بِآيَةِ الْوَصِيَّةِ وَشُمُولِهَا ، وَلِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ " . قَالَ ابْنُ عُمَرَ مَا مَرَّتْ عَلِيَّ لَيْلَةً مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي .
وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ بِالْأَمْرِ بِبَرِّ الْأَقَارِبِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ ، كَثِيرَةٌ جِدًّا .
وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ : أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ ، عَنْ مُبَارَكِ بْنِ حَسَّانَ ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : يَا ابْنَ آدَمَ ، ثِنْتَانِ لَمْ يَكُنْ لَكَ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا : جَعَلْتُ لَكَ نَصِيبًا فِي مَالِكَ حِينَ أَخَذْتُ بِكَظْمِكَ ; لِأُطَهِّرَكَ بِهِ وَأُزَكِّيَكَ ، وَصَلَاةُ عِبَادِي عَلَيْكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَجَلِكَ " .
وَقَوْلُهُ : ( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ) أَيْ : مَالًا . قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَطَاءٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ ، وَقَتَادَةُ ، وَغَيْرُهُمْ .
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْوَصِيَّةُ مَشْرُوعَةٌ سَوَاءٌ قَلَّ الْمَالُ أَوْ كَثُرَ كَالْوِرَاثَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّمَا يُوصِي إِذَا تَرَكَ مَالًا جَزِيلًا ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ :
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِيُّ ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قِيلَ لِعَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ مَاتَ ، وَتَرَكَ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ أَرْبَعَمِائَةٍ وَلَمْ يُوصِ . قَالَ : لَيْسَ بِشَيْءٍ ، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ : ( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ) .
قَالَ : وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ يَعْنِي ابْنَ سُلَيْمَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ عَلِيًّا دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ يَعُودُهُ ، فَقَالَ لَهُ : أُوصِي ؟ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ) إِنَّمَا تَرَكْتَ شَيْئًا يَسِيرًا ، فَاتْرُكْهُ لِوَلَدِكَ .
وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ : حَدَّثَنِي عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ لَمْ يَتْرُكْ سِتِّينَ دِينَارًا لَمْ يَتْرُكْ خَيْرًا ، قَالَ الْحَكَمُ : قَالَ طَاوُسٌ : لَمْ يَتْرُكْ خَيْرًا مَنْ لَمْ يَتْرُكْ ثَمَانِينَ دِينَارًا . وَقَالَ قَتَادَةُ : كَانَ يُقَالُ : أَلْفًا فَمَا فَوْقَهَا .
وَقَوْلُهُ : ( بِالْمَعْرُوفِ ) أَيْ : بِالرِّفْقِ وَالْإِحْسَانِ ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ :[ ص: 495 ]
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ ، حَدَّثَنِي سُرُورُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ ، عَنِ الْحَسَنِ ، قَوْلُهُ : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) فَقَالَ : نَعَمِ ، الْوَصِيَّةُ حَقٌّ ، عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُوصِيَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بِالْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ .
وَالْمُرَادُ بِالْمَعْرُوفِ : أَنْ يُوصِيَ لِأَقْرَبِيهِ وَصِيَّةً لَا تُجْحِفُ بِوَرَثَتِهِ ، مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ سَعْدًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ لِي مَالًا وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي ، أَفَأُوصِي بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ : " لَا " قَالَ : فَبِالشَّطْرِ ؟ قَالَ : " لَا " قَالَ : فَالثُّلُثُ ؟ قَالَ : " الثُّلُثُ ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ; إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ " .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى الرُّبُعِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الثُّلُثُ ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ " .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ ، عَنْ ذَيَّالِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ حَنْظَلَةَ ، سَمِعْتُ حَنْظَلَةَ بْنَ حِذْيَمِ بْنِ حَنِيفَةَ : أَنَّ جِدَّهُ حَنِيفَةَ أَوْصَى لِيَتِيمٍ فِي حِجْرِهِ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى بَنِيهِ ، فَارْتَفَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ حَنِيفَةُ : إِنِّي أَوْصَيْتُ لِيَتِيمٍ لِي بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ ، كُنَّا نُسَمِّيهَا الْمُطَيَّبَةَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، " لَا لَا لَا . الصَّدَقَةُ : خَمْسٌ ، وَإِلَّا فَعَشْرٌ ، وَإِلَّا فَخَمْسَ عَشْرَةَ ، وَإِلَّا فَعِشْرُونَ ، وَإِلَّا فَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ ، وَإِلَّا فَثَلَاثُونَ ، وَإِلَّا فَخَمْسٌ وَثَلَاثُونَ ، فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَأَرْبَعُونَ "وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ .
وَقَوْلُهُ : ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) يَقُولُ تَعَالَى : فَمَنْ بَدَّلَ الْوَصِيَّةَ وَحَرَّفَهَا ، فَغَيَّرَ حُكْمَهَا وَزَادَ فِيهَا أَوْ نَقَصَ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْكِتْمَانُ لَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ( فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ : وَقَدْ وَقَعَ أَجْرُ الْمَيِّتِ عَلَى اللَّهِ ، وَتَعَلَّقَ الْإِثْمُ بِالَّذِينِ بَدَّلُوا ذَلِكَ ) إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) أَيْ : قَدِ اطَّلَعَ عَلَى مَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ ، وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَلِكَ ، وَبِمَا بَدَّلَهُ الْمُوصَى إِلَيْهِمْ .
وَقَوْلُهُ : ( فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ ، وَالسُّدِّيُّ : الْجَنَفُ : الْخَطَأُ . وَهَذَا يَشْمَلُ أَنْوَاعَ الْخَطَأِ كُلَّهَا ، بِأَنْ زَادَ وَارِثًا بِوَاسِطَةٍ أَوْ وَسِيلَةٍ ، كَمَا إِذَا أَوْصَى بِبَيْعِهِ الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ مُحَابَاةً ، أَوْ أَوْصَى لِابْنِ ابْنَتِهِ لِيَزِيدَهَا ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْوَسَائِلِ ، إِمَّا مُخْطِئًا غَيْرَ عَامِدٍ ، بَلْ بِطَبْعِهِ وَقُوَّةِ شَفَقَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَبَصُّرٍ ، أَوْ مُتَعَمِّدًا آثِمًا فِي ذَلِكَ ، فَلِلْوَصِيِّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنْ يُصْلِحَ الْقَضِيَّةَ وَيُعَدِّلَ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ . وَيَعْدِلَ عَنِ الذِي أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ إِلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ وَأَشْبَهُ الْأُمُورِ بِهِ جَمْعًا بَيْنَ مَقْصُودِ الْمُوصِي [ ص: 496 ] وَالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ . وَهَذَا الْإِصْلَاحُ وَالتَّوْفِيقُ لَيْسَ مِنَ التَّبْدِيلِ فِي شَيْءٍ . وَلِهَذَا عَطَفَ هَذَا فَبَيَّنَهُ عَلَى النَّهْيِ لِذَلِكَ ، لِيُعْلَمَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ بِسَبِيلٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدٍ ، قِرَاءَةً ، أَخْبَرَنِي أَبِي ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ ، قَالَ الزُّهْرِيُّ : حَدَّثَنِي عُرْوَةُ ، عَنْ عَائِشَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ قَالَ : " يُرَدُّ مِنْ صَدَقَةِ الْحَائِفِ فِي حَيَاتِهِ مَا يُرَدُّ مِنْ وَصِيَّةِ الْمُجْنِفِ عِنْدَ مَوْتِهِ وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ ، مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ ، بِهِ .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : وَقَدْ أَخْطَأَ فِيهِ الْوَلِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ . وَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ عَنْ عُرْوَةَ فَقَطْ . وَقَدْ رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ ، فَلَمْ يُجَاوِزْ بِهِ عُرْوَةَ .
وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ " .
وَهَذَا فِي رَفْعِهِ أَيْضًا نَظَرٌ . وَأَحْسَنُ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ :
حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْخَيْرِ سَبْعِينَ سَنَةً ، فَإِذَا أَوْصَى حَافٍ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ ، فَيَدْخُلُ النَّارَ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الشَّرِّ سَبْعِينَ سَنَةً ، فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ ، فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ " . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : اقْرَأُوا إِنْ شِئْتُمْ : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ) [ الْبَقَرَةِ : 229 ] . 

114
[ ص: 497 ] ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 183 ) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 184 ) 

يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَآمِرًا لَهُمْ بِالصِّيَامِ ، وَهُوَ : الْإِمْسَاكُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْوِقَاعِ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، لِمَا فِيهِ مِنْ زَكَاةِ النَّفْسِ وَطَهَارَتِهَا وَتَنْقِيَتِهَا مِنَ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ وَالْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ . وَذَكَرَ أَنَّهُ كَمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ فَقَدْ أَوْجَبَهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ ، فَلَهُمْ فِيهِ أُسْوَةٌ ، وَلِيَجْتَهِدَ هَؤُلَاءِ فِي أَدَاءِ هَذَا الْفَرْضِ أَكْمَلَ مِمَّا فَعَلَهُ أُولَئِكَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) [ الْمَائِدَةِ : 48 ] ، وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ تَزْكِيَةٌ لِلْبَدَنِ وَتَضْيِيقٌ لِمَسَالِكِ الشَّيْطَانِ ; وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : " يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ " ثُمَّ بَيَّنَ مِقْدَارَ الصَّوْمِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَى النُّفُوسِ فَتَضْعُفَ عَنْ حَمْلِهِ وَأَدَائِهِ ، بَلْ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ . وَقَدْ كَانَ هَذَا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ يَصُومُونَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الصِّيَامَ كَانَ أَوَّلًا كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأُمَمُ قَبْلَنَا ، مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَنْ مُعَاذٍ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ . وَزَادَ : لَمْ يَزَلْ هَذَا مَشْرُوعًا مِنْ زَمَانِ نُوحٍ إِلَى أَنْ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ .
وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ) فَقَالَ : نَعَمْ ، وَاللَّهِ لَقَدْ كُتِبَ الصِّيَامُ عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ كَمَا كُتِبَ عَلَيْنَا شَهْرًا كَامِلًا وَأَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ : عَدَدًا مَعْلُومًا . وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ ، نَحْوَهُ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِيِّ ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ ، رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " صِيَامُ رَمَضَانَ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ . . " فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ اخْتُصِرَ مِنْهُ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ أُنْزِلَتْ : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ] ) كُتِبَ عَلَيْهِمْ إِذَا صَلَّى أَحَدُهُمُ الْعَتَمَةَ وَنَامَ حَرَّمَ [ اللَّهُ ] عَلَيْهِ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالنِّسَاءَ إِلَى مِثْلِهَا .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَمُجَاهِدٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ ، نَحْوَ ذَلِكَ .
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) يَعْنِي بِذَلِكَ : أَهْلَ الْكِتَابِ . وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ ، مِثْلُهُ [ ص: 498 ]
ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَ الصِّيَامِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ : ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) أَيِ : الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ لَا يَصُومَانِ فِي حَالِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ ; لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمَا ، بَلْ يُفْطِرَانِ وَيَقْضِيَانِ بِعِدَّةِ ذَلِكَ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ . وَأَمَّا الصَّحِيحُ الْمُقِيمُ الذِي يُطِيقُ الصِّيَامَ ، فَقَدْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصِّيَامِ وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ ، إِنْ شَاءَ صَامَ ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ ، وَأَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا ، فَإِنْ أَطْعَمَ أَكْثَرَ مِنْ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ ، فَهُوَ خَيْرٌ ، وَإِنْ صَامَ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِطْعَامِ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ السَّلَفِ ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ )
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ ، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : أُحِيلَتِ الصَّلَاةُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ ، وَأُحِيلَ الصِّيَامُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ ; فَأَمَّا أَحْوَالُ الصَّلَاةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، وَهُوَ يُصَلِّي سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ) [ الْبَقَرَةِ : 144 ] فَوَجَّهَهُ اللَّهُ إِلَى مَكَّةَ . هَذَا حَوْلٌ .
قَالَ : وَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ لِلصَّلَاةِ وَيُؤْذِنُ بِهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى نَقَسُوا أَوْ كَادُوا يَنْقُسُونَ . ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ ، يُقَالُ لَهُ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ ، أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ وَلَوْ قُلْتُ : إِنِّي لَمْ أَكُنْ نَائِمًا لَصَدَقْتُ أَنِّي بَيْنَا أَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ رَأَيْتُ شَخْصًا عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ، فَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَثْنَى حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْأَذَانِ ، ثُمَّ أَمْهَلَ سَاعَةً ، ثُمَّ قَالَ مِثْلَ الذِي قَالَ ، غَيْرَ أَنَّهُ يَزِيدُ فِي ذَلِكَ : قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ مَرَّتَيْنِ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " عَلِّمْهَا بِلَالًا فَلْيُؤَذِّنْ بِهَا " . فَكَانَ بِلُالٌ أَوَّلَ مَنْ أَذَّنَ بِهَا . قَالَ : وَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، [ إِنَّهُ ] قَدْ طَافَ بِي مِثْلَ الذِي طَافَ بِهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ سَبَقَنِي ، فَهَذَانِ حَالَانِ .
قَالَ : وَكَانُوا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ قَدْ سَبَقَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِهَا ، فَكَانَ الرَّجُلُ يُشِيرُ إِلَى الرَّجُلِ إِذًا كَمْ صَلَّى ، فَيَقُولُ : وَاحِدَةٌ أَوِ اثْنَتَيْنِ ، فَيُصَلِّيهِمَا ، ثُمَّ يَدْخُلُ مَعَ الْقَوْمِ فِي صَلَاتِهِمْ . قَالَ : فَجَاءَ مُعَاذٌ فَقَالَ : لَا أَجِدُهُ عَلَى حَالٍ أَبَدًا إِلَّا كُنْتُ عَلَيْهَا ، ثُمَّ قَضَيْتُ مَا سَبَقَنِي . قَالَ : فَجَاءَ وَقَدْ سَبَقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِهَا ، قَالَ : فَثَبَتَ مَعَهُ ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فَقَضَى ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّهُ قَدْ سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ ، فَهَكَذَا فَاصْنَعُوا " . فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ .
وَأَمَّا أَحْوَالُ الصِّيَامِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، فَجَعَلَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَصَامَ عَاشُورَاءَ ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِ الصِّيَامَ ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) .
[ ص: 499 ]إِلَى قَوْلِهِ : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ ، وَمَنْ شَاءَ أَطْعَمَ مِسْكِينًا ، فَأَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهُ . ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ الْآيَةَ الْأُخْرَى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) إِلَى قَوْلِهِ : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) فَأَثْبَتَ اللَّهُ صِيَامَهُ عَلَى الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ وَرَخَّصَ فِيهِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ ، وَثَبَتَ الْإِطْعَامُ لِلْكَبِيرِ الذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ ، فَهَذَانَ حَالَانِ .
قَالَ : وَكَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ مَا لَمْ يَنَامُوا ، فَإِذَا نَامُوا امْتَنَعُوا ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ : صِرْمَةُ ، كَانَ يَعْمَلُ صَائِمًا حَتَّى أَمْسَى ، فَجَاءَ إِلَى أَهْلِهِ فَصَلَّى الْعِشَاءَ ، ثُمَّ نَامَ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ ، حَتَّى أَصْبَحَ فَأَصْبَحَ صَائِمًا ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جَهِدَ جَهْدًا شَدِيدًا ، فَقَالَ : مَا لِي أَرَاكَ قَدْ جَهِدْتَ جَهْدًا شَدِيدًا ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي عَمِلْتُ أَمْسِ فَجِئْتُ حِينَ جِئْتُ فَأَلْقَيْتُ نَفْسِي فَنِمْتُ فَأَصْبَحْتُ حِينَ أَصْبَحْتُ صَائِمًا . قَالَ : وَكَانَ عُمَرُ قَدْ أَصَابَ مِنَ النِّسَاءِ بَعْدَ مَا نَامَ ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ) إِلَى قَوْلِهِ : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ )
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ، مِنْ حَدِيثِ الْمَسْعُودِيِّ ، بِهِ .
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَ عَاشُورَاءُ يُصَامُ ، فَلَمَّا نَزَلَ فَرْضُ رَمَضَانَ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ ، مِثْلُهُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) كَمَا قَالَ مُعَاذٌ : كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ : مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا . وَهَكَذَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ يَفْتَدِي ، حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ التِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا .
وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : هِيَ مَنْسُوخَةٌ .
وَقَالَ السُّدِّيُّ ، عَنْ مُرَّةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) قَالَ : يَقُولُ : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) أَيْ : يَتَجَشَّمُونَهُ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ مِسْكِينًا ( فَمَنْ تَطَوَّعَ ) قَالَ : يَقُولُ : أَطْعَمَ مِسْكِينًا آخَرَ ( فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتَّى نَسَخَتْهَا : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [ص: 500 ] وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ ، أَخْبَرَنَا رَوْحٌ ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، عَنْ عَطَاءٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ : " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ " . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً ، هُوَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا ، فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا 
وَهَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، نَحْوَهُ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [ قَالَ ] نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الذِي لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ ثُمَّ ضَعُفَ ، فَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بَهْرَامَ الْمَحْرَمِيُّ ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى عَطَاءٍ فِي رَمَضَانَ ، وَهُوَ يَأْكُلُ ، فَقَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ مِسْكِينًا ، ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَنَسَخَتِ الْأُولَى ، إِلَّا الْكَبِيرَ الْفَانِيَ إِنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا وَأَفْطَرَ . فَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ النَّسْخَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ بِإِيجَابِ الصِّيَامِ عَلَيْهِ ، بِقَوْلِهِ : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) وَأَمَّا الشَّيْخُ الْفَانِي [ الْهَرِمُ ] الذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَتْ لَهُ حَالٌ يَصِيرُ إِلَيْهَا يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنَ الْقَضَاءِ ، وَلَكِنْ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ [ إِذَا أَفْطَرَ ] أَنْ يُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا إِذَا كَانَ ذَا جِدَةٍ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ ، أَحَدُهُمَا : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِطْعَامٌ ; لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ عَنْهُ لِسِنِّهِ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ كَالصَّبِيِّ ; لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلَّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ : أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ ، كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) أَيْ : يَتَجَشَّمُونَهُ ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ : وَأَمَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ إِذَا لَمْ يُطِقِ الصِّيَامَ ، فَقَدْ أَطْعَمَ أَنَسٌ بَعْدَ أَنْ كَبِرَ عَامًا أَوْ عَامَيْنِ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا خُبْزًا وَلَحْمًا ، وَأَفْطَرَ .
وَهَذَا الذِي عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ قَدْ أَسْنَدَهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ ، فَقَالَ : حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ ، حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ قَالَ : ضَعُفَ أَنَسُ [ بْنُ مَالِكٍ ] عَنِ الصَّوْمِ ، فَصَنَعَ جَفْنَةً مِنْ ثَرِيدٍ ، فَدَعَا ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَأَطْعَمَهُمْ 
وَرَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ ، عَنْ عِمْرَانَ وَهُوَ ابْنُ حُدَيْرٍ عَنْ أَيُّوبَ ، بِهِ .[ ص: 501 ]
وَرَوَاهُ عَبْدٌ أَيْضًا ، مِنْ حَدِيثِ سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَنَسٍ ، عَنْ أَنَسٍ بِمَعْنَاهُ .
وَمِمَّا يَلْتَحِقُ بِهَذَا الْمَعْنَى : الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ ، إِذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا ، فَفِيهِمَا خِلَافٌ كَثِيرٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُفْطِرَانِ وَيَفْدِيَانِ وَيَقْضِيَانِ . وَقِيلَ : يَفْدِيَانِ فَقَطْ ، وَلَا قَضَاءَ . وَقِيلَ : يَجِبُ الْقَضَاءُ بِلَا فِدْيَةٍ . وَقِيلَ : يُفْطِرَانِ ، وَلَا فِدْيَةَ وَلَا قَضَاءَ . وَقَدْ بَسَطْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُسْتَقْصَاةً فِي كِتَابِ الصِّيَامِ الذِي أَفْرَدْنَاهُ . وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ .
يأتي ان شاء الله 115

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق