[ ص: 216 ]( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ( 30 )
يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم ، بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم ، فقال تعالى : ( وإذ قال ربك للملائكة ) أي : واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة ، واقصص على قومك ذلك . وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية [ وهو أبو عبيدة ] أنه زعم أن " إذ " هاهنا زائدة ، وأن تقدير الكلام : وقال ربك . ورده ابن جرير .
قال القرطبي : وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج : هذا اجتراء من أبي عبيدة .
( إني جاعل في الأرض خليفة ) أي : قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل ، كما قال تعالى : ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ) [ الأنعام : 165 ] وقال ( ويجعلكم خلفاء الأرض ) [ النمل : 62 ] . وقال ( ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون ) [ الزخرف : 60 ] . وقال ( فخلف من بعدهم خلف ) [ مريم : 59 ] . [ وقرئ في الشاذ : " إني جاعل في الأرض خليقة " حكاه الزمخشري وغيره ونقلها القرطبي عن زيد بن علي ] . وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم - عليه السلام - فقط ، كما يقوله طائفة من المفسرين ، وعزاه القرطبي إلى ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل ، وفي ذلك نظر ، بل الخلاف في ذلك كثير ، حكاه فخر الدين الرازي في تفسيره وغيره ، والظاهر أنه لم يرد آدم عينا إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) فإنهم إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك ، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمإ مسنون [ أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس فيما يقع بينهم من المظالم ، ويرد عنهم المحارم والمآثم ، قاله القرطبي ] أو أنهم قاسوهم على من سبق ، كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك .
وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ، ولا على وجه الحسد لبني آدم ، كما قد يتوهمه بعض المفسرين [ وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول ، أي : لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقا . قال قتادة : وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا : ( أتجعل فيها ) الآية ] وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، يقولون : يا ربنا ، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، فإن كان المراد عبادتك ، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، أي : نصلي لك كما سيأتي ، أي : ولا يصدر منا شيء من ذلك ، وهلا وقع الاقتصار علينا ؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) أي : إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم ؛ فإني سأجعل فيهم الأنبياء ، وأرسل فيهم الرسل ، ويوجد فيهم [ ص: 217 ] الصديقون والشهداء ، والصالحون والعباد ، والزهاد والأولياء ، والأبرار والمقربون ، والعلماء العاملون والخاشعون ، والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله ، صلوات الله وسلامه عليهم .
وقد ثبت في الصحيح : أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده سألهم وهو أعلم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون . وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه السلام : يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل فقولهم : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) وقيل : معنى قوله جوابا لهم : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) أن لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها ، وقيل : إنه جواب لقولهم : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) فقال : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) أي : من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به . وقيل : بل تضمن قولهم : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) طلبا منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم ، فقال الله تعالى لهم : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم . ذكرها فخر الدين مع غيرها من الأجوبة ، والله أعلم .
ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه :
قال ابن جرير : حدثني القاسم بن الحسن قال : حدثنا الحسين قال : حدثني الحجاج ، عن جرير بن حازم ، ومبارك ، عن الحسن وأبي بكر ، عن الحسن وقتادة ، قالوا : قال الله للملائكة : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) قال لهم : إني فاعل . وهذا معناه أنه أخبرهم بذلك .
وقال السدي : استشار الملائكة في خلق آدم . رواه ابن أبي حاتم ، قال : وروي عن قتادة نحوه . وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل ، وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن ، والله أعلم .
( في الأرض ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد حدثنا عطاء بن السائب ، عن عبد الرحمن بن سابط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دحيت الأرض من مكة ، وأول من طاف بالبيت الملائكة ، فقال الله : إني جاعل في الأرض خليفة ، يعني مكة .
وهذا مرسل ، وفي سنده ضعف ، وفيه مدرج ، وهو أن المراد بالأرض مكة ، والله أعلم ، فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك .
( خليفة ) قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة أن الله تعالى قال للملائكة : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) [ ص: 218 ] قالوا : ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا .
قال ابن جرير : فكان تأويل الآية على هذا : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) مني ، يخلفني في الحكم بين خلقي ، وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه . وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه .
قال ابن جرير : وإنما [ كان تأويل الآية على هذا ] معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنا .
قال : والخليفة الفعيلة من قولك ، خلف فلان فلانا في هذا الأمر : إذا قام مقامه فيه بعده ، كما قال تعالى : ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) [ يونس : 14 ] . ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم : خليفة ؛ لأنه خلف الذي كان قبله ، فقام بالأمر مقامه ، فكان منه خلفا .
قال : وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) يقول : ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلفا ليس منكم .
قال ابن جرير : وحدثنا أبو كريب ، حدثنا عثمان بن سعيد ، حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : أول من سكن الأرض الجن ، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء ، وقتل بعضهم بعضا . قال : فبعث الله إليهم إبليس ، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال . ثم خلق آدم وأسكنه إياها ، فلذلك قال : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) .
وقال سفيان الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن ابن سابط : ( إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) قال : يعنون [ به ] بني آدم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال الله للملائكة : إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة وليس لله عز وجل خلق إلا الملائكة ، والأرض ليس فيها خلق ، قالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها [ ويسفك الدماء ] ؟ !
وقد تقدم ما رواه السدي ، عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة : أن الله أعلم الملائكة بما يفعل ذرية آدم ، فقالت الملائكة ذلك . وتقدم آنفا ما رواه الضحاك ، عن ابن عباس : أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم ، فقالت الملائكة ذلك ، فقاسوا هؤلاء بأولئك .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا [ ص: 219 ] الأعمش ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة ، فأفسدوا في الأرض ، وسفكوا الدماء ، فبعث الله جندا من الملائكة فضربوهم ، حتى ألحقوهم بجزائر البحور ، فقال الله للملائكة : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ قال : إني أعلم ما لا تعلمون .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) إلى قوله : ( وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ) [ البقرة : 33 ] قال : خلق الله الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن يوم الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة ؛ فكفر قوم من الجن ، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ، فكانت الدماء بينهم ، وكان الفساد في الأرض ، فمن ثم قالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ) كما أفسدت الجن ( ويسفك الدماء ) كما سفكوا .
قال ابن أبي حاتم : وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا مبارك بن فضالة ، حدثنا الحسن ، قال : قال الله للملائكة : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) قال لهم : إني فاعل . فآمنوا بربهم ، فعلمهم علما وطوى عنهم علما علمه ولم يعلموه ، فقالوا بالعلم الذي علمهم : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) ؟ ( قال إني أعلم ما لا تعلمون )
قال الحسن : إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء ، ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون ، فقالوا بالقول الذي علمهم .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ) كان [ الله ] أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، فذلك حين قالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ) .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام الرازي ، حدثنا ابن المبارك ، عن معروف ، يعني ابن خربوذ المكي ، عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول : السجل ملك ، وكان هاروت وماروت من أعوانه ، وكان له في كل يوم ثلاث لمحات ينظرهن في أم الكتاب ، فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من الأمور ، فأسر ذلك إلى هاروت وماروت ، وكانا من أعوانه ، فلما قال تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) قالا ذلك استطالة على الملائكة .
وهذا أثر غريب . وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن الباقر ، فهو نقله عن أهل الكتاب ، وفيه نكارة توجب رده ، والله أعلم . ومقتضاه أن الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين فقط ، [ ص: 220 ] وهو خلاف السياق .
وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم - أيضا - حيث قال : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن أبي عبد الله ، حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير ، قال : سمعت أبي يقول : إن الملائكة الذين قالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) كانوا عشرة آلاف ، فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم .
وهذا - أيضا - إسرائيلي منكر كالذي قبله ، والله أعلم .
قال ابن جريج : إنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم ، فقالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )
وقال ابن جرير : وقال بعضهم : إنما قالت الملائكة ما قالت : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) ؛ لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك ، بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم ، فسألته الملائكة ، فقالت على التعجب منها : وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم ! ؟ فأجابهم ربهم : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) يعني : أن ذلك كائن منهم ، وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض من ترونه لي طائعا .
قال : وقال بعضهم : ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك ، فكأنهم قالوا : يا رب خبرنا ، مسألة [ الملائكة ] استخبار منهم ، لا على وجه الإنكار ، واختاره ابن جرير .
وقال سعيد عن قتادة قوله : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) فاستشار الملائكة في خلق آدم ، فقالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) فكان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة ، قال : وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول : إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة : ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا ، فابتلوا بخلق آدم ، وكل خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة فقال : ( ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) [ فصلت : 11 ] .
وقوله تعالى : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) قال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : التسبيح : التسبيح ، والتقديس : الصلاة .
وقال السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود - وعن ناس من الصحابة : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) قال : يقولون : نصلي لك .
وقال مجاهد : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) قال : نعظمك ونكبرك .
[ ص: 221 ]
وقال الضحاك : التقديس : التطهير .
وقال محمد بن إسحاق : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) قال : لا نعصي ولا نأتي شيئا تكرهه .
وقال ابن جرير : التقديس : هو التعظيم والتطهير ، ومنه قولهم : سبوح قدوس ، يعني بقولهم : سبوح ، تنزيه له ، وبقولهم : قدوس ، طهارة وتعظيم له . ولذلك قيل للأرض : أرض مقدسة ، يعني بذلك المطهرة . فمعنى قول الملائكة إذا : ( ونحن نسبح بحمدك ) ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك ) ونقدس لك ) ننسبك إلى ما هو من صفاتك ، من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك .
[ وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي الكلام أفضل ؟ قال : ما اصطفى الله لملائكته : سبحان الله وبحمده وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحا في السماوات العلا سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى ] .
( قال إني أعلم ما لا تعلمون ) قال قتادة : فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة ، وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقوال في حكمة قوله تعالى : ( قال إني أعلم ما لا تعلمون )
وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما يختلفون فيه ، ويقطع تنازعهم ، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم ، ويقيم الحدود ، ويزجر عن تعاطي الفواحش ، إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها إلا بالإمام ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر ، أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم ، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب ، أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر ، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع ، والله أعلم ، أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف ، وقد نص عليه الشافعي .
وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة ؟ فيه خلاف ، فمنهم من قال : لا يشترط ، وقيل : بلى ويكفي شاهدان . وقال الجبائي : يجب أربعة وعاقد ومعقود له ، كما ترك عمر رضي الله عنه الأمر شورى بين ستة ، فوقع الأمر على عاقد وهو عبد الرحمن بن عوف ، ومعقود له وهو عثمان ، واستنبط [ ص: 222 ] وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين ، وفي هذا نظر ، والله أعلم .
ويجب أن يكون ذكرا حرا بالغا عاقلا مسلما عدلا مجتهدا بصيرا سليم الأعضاء خبيرا بالحروب والآراء قرشيا على الصحيح ، ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافا للغلاة الروافض ، ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا ؟ فيه خلاف ، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام : إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان وهل له أن يعزل نفسه ؟ فيه خلاف ، وقد عزل الحسن بن علي نفسه وسلم الأمر إلى معاوية لكن هذا لعذر وقد مدح على ذلك .
فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام : من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنا من كان . وهذا قول الجمهور ، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد ، منهم إمام الحرمين ، وقالت الكرامية : يجوز نصب إمامين فأكثر كما كان علي ومعاوية إمامين واجبي الطاعة ، قالوا : وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمامة ؛ لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف ، وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما ، وتردد إمام الحرمين في ذلك ، قلت : وهذا يشبه حال خلفاء بني العباس بالعراق والفاطميين بمصر والأمويين بالمغرب .
27
( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 31 ) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 32 ) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ( 33 ) )
هَذَا مَقَامٌ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ شَرَفَ آدَمَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ، بِمَا اخْتَصَّهُ بِهِ مِنْ عِلْمِ أَسْمَاءِ كُلِّ شَيْءٍ دُونَهُمْ ، وَهَذَا كَانَ بَعْدَ سُجُودِهِمْ لَهُ ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ هَذَا الْفَصْلَ عَلَى ذَاكَ ، لِمُنَاسَبَةِ مَا بَيْنَ هَذَا الْمَقَامِ وَعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِحِكْمَةِ خَلْقِ الْخَلِيفَةِ ، حِينَ سَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ ، فَأَخْبَرَهُمْ [ اللَّهُ ] تَعَالَى بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُونَ ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ تَعَالَى هَذَا الْمَقَامَ عَقِيبَ هَذَا لِيُبَيِّنَ لَهُمْ شَرَفَ آدَمَ بِمَا فُضِّلَ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ ، فَقَالَ تَعَالَى : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا )
وَقَالَ السُّدِّيُّ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) قَالَ : عَرَضَ عَلَيْهِ أَسْمَاءَ وَلَدِهِ إِنْسَانًا إِنْسَانًا ، وَالدَّوَابِّ ، فَقِيلَ : هَذَا الْحِمَارُ ، هَذَا الْجَمَلُ ، هَذَا الْفَرَسُ .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) قَالَ : هِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي يَتَعَارَفُ [ ص: 223 ] بِهَا النَّاسُ : إِنْسَانٌ ، وَدَابَّةٌ ، وَسَمَاءٌ ، وَأَرْضٌ ، وَسَهْلٌ ، وَبَحْرٌ ، وَجَمَلٌ ، وَحِمَارٌ ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمَمِ وَغَيْرِهَا .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ ، مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَعْبَدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) قَالَ : عَلَّمَهُ اسْمَ الصَّحْفَةِ وَالْقِدْرِ ، قَالَ : نَعَمْ حَتَّى الْفَسْوَةَ وَالْفُسَيَّةَ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) قَالَ : عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ دَابَّةٍ ، وَكُلِّ طَيْرٍ ، وَكُلِّ شَيْءٍ .
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ : أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَقَالَ الرَّبِيعُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : أَسْمَاءُ الْمَلَائِكَةِ . وَقَالَ حُمَيْدٌ الشَّامِيُّ : أَسْمَاءُ النُّجُومِ . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ : عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ كُلِّهِمْ .
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْمَلَائِكَةِ وَأَسْمَاءَ الذُّرِّيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ ) وَهَذَا عِبَارَةٌ عَمَّا يَعْقِلُ . وَهَذَا الَّذِي رَجَّحَ بِهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ ، وَيُعَبَّرَ عَنِ الْجَمِيعِ بِصِيغَةِ مَنْ يَعْقِلُ لِلتَّغْلِيبِ . كَمَا قَالَ : ( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ النُّورِ : 45 ] .
[ وَقَدْ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : ثُمَّ عَرَضَهُنَّ وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ : ثُمَّ عَرَضَهَا أَيْ : السَّمَاوَاتُ ] .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا : ذَوَاتَهَا وَأَفْعَالَهَا ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَتَّى الْفَسْوَةَ وَالْفُسَيَّةَ . يَعْنِي أَسْمَاءَ الذَّوَاتِ وَالْأَفْعَالِ ، الْمُكَبَّرُ وَالْمُصَغَّرُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ : حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ - : يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَقُولُونَ : لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا ؟ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ : أَنْتَ أَبُو النَّاسِ ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ ، فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا ، فَيَقُولُ : لَسْتُ هُنَاكُمْ ، وَيَذْكُرُ ذَنْبَهُ فَيَسْتَحْيِي ؛ ائْتُوا نُوحًا فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ ، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ : لَسْتُ هُنَاكُمْ . وَيَذْكُرُ سُؤَالَهُ رَبَّهُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ فَيَسْتَحِيِي . فَيَقُولُ : ائْتُوا خَلِيلَ الرَّحْمَنِ ، فَيَأْتُونَهُ ، فَيَقُولُ : لَسْتُ هُنَاكُمْ ؛ فَيَقُولُ : ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا كَلَّمَهُ اللَّهُ ، وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ ، فَيَأْتُونَهُ ، فَيَقُولُ : لَسْتُ هُنَاكُمْ ، وَيَذْكُرُ قَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ نَفْسٍ ، فَيَسْتَحْيِي مِنْ رَبِّهِ ؛ فَيَقُولُ : ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَكَلِمَةَ اللَّهِ وَرُوحَهُ ، فَيَأْتُونَهُ ، فَيَقُولُ : لَسْتُ هُنَاكُمْ ، ائْتُوا مُحَمَّدًا عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، فَيَأْتُونِي ، فَأَنْطَلِقُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ عَلَى رَبِّي ، فَيُؤْذَنُ لِي ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا ، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ يُقَالُ : ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَسَلْ تُعْطَهُ ، وَقُلْ [ ص: 224 ] يُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي ، فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعْلِمُنِيهِ ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ، ثُمَّ أَعُودُ إِلَيْهِ ، وَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي مِثْلَهُ ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ، ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَقُولُ : مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ .
هَكَذَا سَاقَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ هَاهُنَا . وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّسْتُوَائِيُّ ، عَنْ قَتَادَةَ ، بِهِ . وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ . وَوَجْهُ إِيرَادِهِ هَاهُنَا وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ : أَنْتَ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ) يَعْنِي : الْمُسَمَّيَاتُ ؛ كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : ثُمَّ عَرَضَ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ( فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )
وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) ثُمَّ عَرَضَ الْخَلْقَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ .
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ ) عَرَضَ أَصْحَابَ الْأَسْمَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ، حَدَّثَنِي الْحَجَّاجُ ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ وَمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ ، عَنِ الْحَسَنِ - وَأَبِي بَكْرٍ ، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ - قَالَا عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَجَعَلَ يُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ بِاسْمِهِ ، وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ أُمَّةً أُمَّةً .
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ : ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) إِنِّي لَمْ أَخْلُقْ خَلْقًا إِلَّا كُنْتُمْ أَعْلَمَ مِنْهُ ، فَأَخْبِرُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَمْ أَجْعَلْ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً .
وَقَالَ السُّدِّيُّ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ : إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَنَّ بَنِي آدَمَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ ، وَمَعْنَى ذَلِكَ فَقَالَ : أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ مَنْ عَرَضْتُهُ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمَلَائِكَةُ الْقَائِلُونَ : أَتَجْعَلُ فِي الْأَرْضِ مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ[ ص: 225 ] الدِّمَاءَ ، مِنْ غَيْرِنَا أَمْ مِنَّا ، فَنَحْنُ نَسْبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ؟ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قِيلِكُمْ : إِنِّي إِنْ جَعَلْتُ خَلِيفَتِي فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِكُمْ عَصَانِي ذُرِّيَّتُهُ وَأَفْسَدُوا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ ، وَإِنْ جَعَلَتُكُمْ فِيهَا أَطَعْتُمُونِي وَاتَّبَعْتُمْ أَمْرِي بِالتَّعْظِيمِ لِي وَالتَّقْدِيسِ ، فَإِذَا كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَسْمَاءَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَرَضْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ تُشَاهِدُونَهُمْ ، فَأَنْتُمْ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ مِنَ الْأُمُورِ الْكَائِنَةِ الَّتِي لَمْ تُوجَدْ أَحْرَى أَنْ تَكُونُوا غَيْرَ عَالِمِينَ .
[ وَقَوْلُهُ ] ( قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) هَذَا تَقْدِيسٌ وَتَنْزِيهٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُحِيطَ أَحَدٌ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ، وَأَنْ يَعْلَمُوا شَيْئًا إِلَّا مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلِهَذَا قَالُوا : ( سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) أَيِ : الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ ، الْحَكِيمُ فِي خَلْقِكَ وَأَمْرِكَ وَفِي تَعْلِيمِكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْعِكَ مَنْ تَشَاءُ ، لَكَ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ ، وَالْعَدْلُ التَّامُّ .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ ، عَنْ حَجَّاجٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، قَالَ : تَنْزِيهُ اللَّهِ نَفْسَهُ عَنِ السُّوءِ . [ قَالَ ] ثُمَّ قَالَ عُمَرُ لَعَلِيٍّ وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا سُبْحَانَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : كَلِمَةٌ أَحَبَّهَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ ، وَرَضِيَهَا ، وَأَحَبَّ أَنْ تُقَالَ .
قَالَ : وَحَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُفَيْلٍ ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ عَرَبِيٍّ قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ عَنْ سُبْحَانَ اللَّهِ ، فَقَالَ : اسْمٌ يُعَظَّمُ اللَّهُ بِهِ ، وَيُحَاشَى بِهِ مِنَ السُّوءِ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ . قَالَ : أَنْتَ جِبْرِيلُ ، أَنْتَ مِيكَائِيلُ ، أَنْتَ إِسْرَافِيلُ ، حَتَّى عَدَّدَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ، حَتَّى بَلَغَ الْغُرَابَ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِ اللَّهِ : ( يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ) قَالَ : اسْمُ الْحَمَامَةِ ، وَالْغُرَابِ ، وَاسْمُ كُلِّ شَيْءٍ .
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ ، نَحْوُ ذَلِكَ .
فَلَمَّا ظَهَرَ فَضْلُ آدَمَ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، عَلَى الْمَلَائِكَةِ ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ، فِي سَرْدِهِ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَسْمَاءِ الْأَشْيَاءِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ : ( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) أَيْ : أَلَمْ أَتَقَدَّمْ إِلَيْكُمْ أَنِّي أَعْلَمُ الْغَيْبَ الظَّاهِرَ وَالْخَفِيَّ ، كَمَا قَالَ [ اللَّهُ ] تَعَالَى : ( وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) وَكَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْهُدْهُدِ أَنَّهُ قَالَ[ ص: 226 ] لِسُلَيْمَانَ : ( أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) .
وَقِيلَ فِي [ مَعْنَى ] قَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهُ ؛ فَرَوَى الضَّحَّاكُ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) قَالَ : يَقُولُ : أَعْلَمُ السِّرَّ كَمَا أَعْلَمُ الْعَلَانِيَةَ ، يَعْنِي : مَا كَتَمَ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبْرِ وَالِاغْتِرَارِ .
وَقَالَ السُّدِّيُّ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ، قَالَ : قَوْلُهُمْ : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ) فَهَذَا الَّذِي أَبْدَوْا ( وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) يَعْنِي : مَا أَسَرَّ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبْرِ .
وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَالثَّوْرِيُّ . وَاخْتَارَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ : هُوَ قَوْلُهُمْ : لَمْ يَخْلُقْ رَبُّنَا خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أَعْلَمَ مِنْهُ وَأَكْرَمَ .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ : ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) فَكَانَ الَّذِي أَبْدَوْا قَوْلَهُمْ : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ) وَكَانَ الَّذِي كَتَمُوا بَيْنَهُمْ قَوْلَهُمْ : لَنْ يَخْلُقَ رَبُّنَا خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أَعْلَمَ مِنْهُ وَأَكْرَمَ . فَعَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ فَضَّلَ عَلَيْهِمْ آدَمَ فِي الْعِلْمِ وَالْكَرَمِ .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا يُونُسَ ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، فِي قِصَّةِ الْمَلَائِكَةِ وَآدَمَ : فَقَالَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ : كَمَا لَمْ تَعْلَمُوا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ فَلَيْسَ لَكُمْ عِلْمٌ ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَجْعَلَهُمْ لِيُفْسِدُوا فِيهَا ، هَذَا عِنْدِي قَدْ عَلِمْتُهُ ؛ وَلِذَلِكَ أَخْفَيْتُ عَنْكُمْ أَنِّي أَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يَعْصِينِي وَمَنْ يُطِيعُنِي ، قَالَ : وَسَبَقَ مِنَ اللَّهِ ( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) قَالَ : وَلَمْ تَعْلَمِ الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ وَلَمْ يَدْرُوهُ قَالَ : وَلَمَّا رَأَوْا مَا أَعْطَى اللَّهُ آدَمَ مِنَ الْعِلْمِ أَقَرُّوا لَهُ بِالْفَضْلِ .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ) وَأَعْلَمُ - مَعَ عِلْمِي غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - مَا تُظْهِرُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تُخْفُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ ، فَلَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ ، سَوَاءٌ عِنْدِي سَرَائِرُكُمْ ، وَعَلَانِيَتُكُمْ .
وَالَّذِي أَظْهَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ قَوْلُهُمْ : أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ، وَالَّذِي كَانُوا يَكْتُمُونَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُنْطَوِيًا إِبْلِيسُ مِنَ الْخِلَافِ عَلَى اللَّهِ فِي أَوَامِرِهِ ، وَالتَّكَبُّرِ عَنْ طَاعَتِهِ[ ص: 227 ]
قَالَ : وَصَحَّ ذَلِكَ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ : قُتِلَ الْجَيْشُ وَهُزِمُوا ، وَإِنَّمَا قُتِلَ الْوَاحِدُ أَوِ الْبَعْضُ ، وَهُزِمَ الْوَاحِدُ أَوِ الْبَعْضُ ، فَيَخْرُجُ الْخَبَرُ عَنِ الْمَهْزُومِ مِنْهُ وَالْمَقْتُولِ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَنْ جَمِيعِهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ) [ الْحُجُرَاتِ : 4 ] ذُكِرَ أَنَّ الَّذِي نَادَى إِنَّمَا كَانَ وَاحِدًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ، قَالَ : وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ )
28
( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( 34 )
وَهَذِهِ كَرَامَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِآدَمَ امْتَنَّ بِهَا عَلَى ذُرِّيَّتِهِ ، حَيْثُ أَخْبَرَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَحَادِيثُ - أَيْضًا - كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَحَدِيثُ مُوسَى ، عَلَيْهِ السَّلَامُ : رَبِّ ، أَرِنِي آدَمَ الَّذِي أَخْرَجَنَا وَنَفْسَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ قَالَ : أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ . قَالَ . . . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ كَمَا سَيَأْتِي .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ : الْجِنُّ ، خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ ، مِنْ بَيْنِ الْمَلَائِكَةِ ، وَكَانَ اسْمُهُ الْحَارِثُ ، وَكَانَ خَازِنًا مِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ ، قَالَ : وَخُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ مِنْ نُورٍ غَيْرَ هَذَا الْحَيِّ ، قَالَ : وَخُلِقَتِ الْجِنُّ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ، [ وَهُوَ لِسَانُ النَّارِ الَّذِي يَكُونُ فِي طَرَفِهَا إِذَا لُهِّبَتْ قَالَ : وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ طِينٍ ] . فَأَوَّلُ مَنْ سَكَنَ الْأَرْضَ الْجِنُّ فَأَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ ، وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا . قَالَ : فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسَ فِي جُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ - وَهُمْ هَذَا الْحَيُّ الَّذِي يُقَالُ لَهُمُ : الْجِنُّ - فَقَتَلَهُمْ إِبْلِيسُ وَمَنْ مَعَهُ ، حَتَّى أَلْحَقَهُمْ بِجَزَائِرِ الْبُحُورِ وَأَطْرَافِ الْجِبَالِ ، فَلَمَّا فَعَلَ إِبْلِيسُ ذَلِكَ اغْتَرَّ فِي نَفْسِهِ ، فَقَالَ : قَدْ صَنَعْتُ شَيْئًا لَمْ يَصْنَعْهُ أَحَدٌ . قَالَ : فَاطَّلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَلْبِهِ ، وَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ مَعَهُ :(إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مُجِيبِينَ لَهُ : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) كَمَا أَفْسَدَتِ الْجِنُّ وَسَفَكَتِ الدِّمَاءَ ، وَإِنَّمَا بَعَثْتَنَا عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ ؟ فَقَالَ :(إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) يَقُولُ : إِنِّي قَدِ اطَّلَعْتُ مِنْ قَلْبِ إِبْلِيسَ عَلَى مَا لَمْ تَطَّلِعُوا عَلَيْهِ مِنْ كِبْرِهِ وَاغْتِرَارِهِ ، قَالَ : ثُمَّ أَمَرَ بِتُرْبَةِ آدَمَ فَرُفِعَتْ ، فَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ - وَاللَّازِبُ : اللَّزِجُ الصَّلْبُ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ مُنْتِنٍ ، وَإِنَّمَا كَانَ حَمَأً مَسْنُونًا بَعْدَ التُّرَابِ . فَخَلَقَ مِنْهُ آدَمَ بِيَدِهِ ، قَالَ : فَمَكَثَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً جَسَدًا مُلْقًى . فَكَانَ إِبْلِيسُ يَأْتِيهِ فَيَضْرِبُهُ بِرِجْلِهِ ، فَيُصَلْصِلُ ، أَيْ فَيُصَوِّتُ . قَالَ : فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : ( مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ) [ الرَّحْمَنِ : 14 ] ) يَقُولُ : كَالشَّيْءِ الْمُنْفَرِجِ الَّذِي لَيْسَ [ ص: 228 ] بِمُصْمَتٍ . قَالَ : ثُمَّ يَدْخُلُ فِي فِيهِ وَيَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ ، وَيَدْخُلُ مِنْ دُبُرِهِ ، وَيَخْرُجُ مِنْ فِيهِ . ثُمَّ يَقُولُ : لَسْتَ شَيْئًا - لِلصَّلْصَلَةِ - وَلِشَيْءٍ مَا خُلِقْتَ ، وَلَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْكَ لَأُهْلِكَنَّكَ ، وَلَئِنْ سُلِّطْتَ عَلَيَّ لِأَعْصِيَنَّكَ . قَالَ : فَلَمَّا نَفَخَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ، أَتَتِ النَّفْخَةُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ، فَجَعْلَ لَا يَجْرِي شَيْءٌ مِنْهَا فِي جَسَدِهِ إِلَّا صَارَ لَحْمًا وَدَمًا ، فَلَمَّا انْتَهَتِ النَّفْخَةُ إِلَى سُرَّتِهِ نَظَرَ إِلَى جَسَدِهِ فَأَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ جَسَدِهِ ، فَذَهَبَ لِيَنْهَضَ فَلَمْ يَقْدِرْ ، فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : ( وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ) قَالَ : ضَجِرٌ لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى سَرَّاءَ وَلَا ضَرَّاءَ . قَالَ : فَلَمَّا تَمَّتِ النَّفْخَةُ فِي جَسَدِهِ عَطَسَ ، فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - بِإِلْهَامِ اللَّهِ - فَقَالَ [ اللَّهُ ] لَهُ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا آدَمَ . قَالَ ثُمَّ قَالَ [ اللَّهُ ] تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْلِيسَ خَاصَّةً دُونَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ فِي السَّمَاوَاتِ : اسْجُدُوا لِآدَمَ . فَسَجَدُوا كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ، لِمَا كَانَ حَدَّثَ نَفْسَهُ مِنَ الْكِبْرِ وَالِاغْتِرَارِ . فَقَالَ : لَا أَسْجُدُ لَهُ ، وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وَأَكْبَرُ سِنًّا وَأَقْوَى خَلْقًا ، خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ . يَقُولُ : إِنَّ النَّارَ أَقْوَى مِنَ الطِّينِ . قَالَ : فَلَمَّا أَبَى إِبْلِيسُ أَنْ يَسْجُدَ أَبْلَسَهُ اللَّهُ ، أَيْ : آيَسَهُ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ ، وَجَعَلَهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا عُقُوبَةً لِمَعْصِيَتِهِ ، ثُمَّ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ، وَهِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي يَتَعَارَفُ بِهَا النَّاسُ : إِنْسَانٌ وَدَابَّةٌ وَأَرْضٌ وَسَهْلٌ وَبَحْرٌ وَجَبَلٌ وَحِمَارٌ ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمَمِ وَغَيْرِهَا . ثُمَّ عَرَضَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ عَلَى أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ ، يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْلِيسَ ، الَّذِينَ خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ ، وَقَالَ لَهُمْ : ( أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ ) يَقُولُ : أَخْبِرُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لِمَ أَجْعَلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً . قَالَ : فَلَمَّا عَلِمَتِ الْمَلَائِكَةُ مَوْجِدَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَكَلَّمُوا بِهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ ، الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ ، الَّذِي لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ قَالُوا : سُبْحَانَكَ ، تَنْزِيهًا لِلَّهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ يَعْلَمُ الْغَيْبَ غَيْرَهُ ، وَتُبْنَا إِلَيْكَ ( لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ) تَبَرِّيًا مِنْهُمْ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ ، إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا كَمَا عَلَّمْتَ آدَمَ ، فَقَالَ : ( يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ) يَقُولُ : أَخْبِرْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ( فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ ) [ يَقُولُ : أَخْبَرَهُمْ ] ( بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ ) أَيُّهَا الْمَلَائِكَةُ خَاصَّةً ( إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) وَلَا يَعْلَمُ غَيْرِي ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ) يَقُولُ : مَا تُظْهِرُونَ ( وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) يَقُولُ : أَعْلَمُ السِّرَّ كَمَا أَعْلَمُ الْعَلَانِيَةَ ، يَعْنِي : مَا كَتَمَ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبْرِ وَالِاغْتِرَارِ .
هَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ ، وَفِيهِ أَشْيَاءُ فِيهَا نَظَرٌ ، يَطُولُ مُنَاقَشَتُهَا ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يُرْوَى بِهِ تَفْسِيرٌ مَشْهُورٌ .
وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ ، عَنِ ابْنِ [ ص: 229 ] مَسْعُودٍ ، وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِ مَا أَحَبَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ، فَجَعَلَ إِبْلِيسَ عَلَى مُلْكِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، وَكَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ : الْجِنُّ ، وَإِنَّمَا سُمُّوا الْجِنَّ لِأَنَّهُمْ خُزَّانُ الْجَنَّةِ ، وَكَانَ إِبْلِيسُ مَعَ مُلْكِهِ خَازِنًا ، فَوَقَعَ فِي صَدْرِهِ كِبْرٌ وَقَالَ : مَا أَعْطَانِي اللَّهُ هَذَا إِلَّا لِمَزِيَّةٍ لِي عَلَى الْمَلَائِكَةِ . فَلَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ الْكِبْرُ فِي نَفْسِهِ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُ . فَقَالَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ : ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) قَالُوا : رَبَّنَا ، وَمَا يَكُونُ ذَلِكَ الْخَلِيفَةُ ؟ قَالَ : يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَتَحَاسَدُونَ وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا . قَالُوا : رَبَّنَا ، ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) يَعْنِي : مِنْ شَأْنِ إِبْلِيسَ . فَبَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ إِلَى الْأَرْضِ لِيَأْتِيَهُ بِطِينٍ مِنْهَا ، فَقَالَتِ الْأَرْضُ : إِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ أَنْ تَقْبِضَ مِنِّي أَوْ تَشِينَنِي فَرَجَعَ وَلَمْ يَأْخُذْ ، وَقَالَ : رَبِّ مِنِّي عَاذَتْ بِكَ فَأَعَذْتُهَا ، فَبَعَثَ مِيكَائِيلُ ، فَعَاذَتْ مِنْهُ فَأَعَاذَهَا ، فَرَجَعَ فَقَالَ كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ ، فَبَعَثَ مَلَكَ الْمَوْتِ فَعَاذَتْ مِنْهُ . فَقَالَ : وَأَنَا أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَرْجِعَ وَلَمْ أُنَفِّذْ أَمْرَهُ ، فَأَخَذَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ ، وَخَلَطَ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ ، وَأَخَذَ مِنْ تُرْبَةٍ حَمْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَسَوْدَاءَ ، فَلِذَلِكَ خَرَجَ بَنُو آدَمَ مُخْتَلِفِينَ ، فَصَعِدَ بِهِ فَبَلَّ التُّرَابَ حَتَّى عَادَ طِينًا لَازِبًا - وَاللَّازِبُ : هُوَ الَّذِي يَلْتَزِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ - ثُمَّ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ : ( إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) [ ص : 71 ، 72 ] فَخَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ لِئَلَّا يَتَكَبَّرَ إِبْلِيسُ عَنْهُ ، لِيَقُولَ لَهُ : تَتَكَبَّرُ عَمَّا عَمِلْتُ بِيَدِي ، وَلَمْ أَتَكَبَّرْ أَنَا عَنْهُ . فَخَلَقَهُ بَشَرًا ، فَكَانَ جَسَدًا مِنْ طِينٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، فَمَرَّتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ فَفَزِعُوا مِنْهُ لَمَّا رَأَوْهُ ، وَكَانَ أَشَدُّهُمْ فَزَعًا مِنْهُ إِبْلِيسُ ، فَكَانَ يَمُرُّ بِهِ فَيَضْرِبُهُ فَيُصَوِّتُ الْجَسَدُ كَمَا يُصَوِّتُ الْفَخَّارُ وَتَكُونُ لَهُ صَلْصَلَةٌ . فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ : ( مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ) [ الرَّحْمَنِ : 14 ] وَيَقُولُ : لِأَمْرٍ مَا خُلِقْتَ . وَدَخَلَ مِنْ فِيهِ فَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ ، وَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ : لَا تَرْهَبُوا مِنْ هَذَا ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ صَمَدٌ وَهَذَا أَجْوَفُ . لَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْهِ لَأُهْلِكَنَّهُ ، فَلَمَّا بَلَغَ الْحِينَ الَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ ، قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ : إِذَا نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَاسْجُدُوا لَهُ ، فَلَمَّا نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ فَدَخَلَ الرُّوحُ فِي رَأْسِهِ ، عَطَسَ ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ : قُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، فَقَالَ لَهُ اللَّهُ : رَحِمَكَ رَبُّكَ ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الرُّوحُ فِي عَيْنَيْهِ نَظَرَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ . فَلَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ فِي جَوْفِهِ اشْتَهَى الطَّعَامَ ، فَوَثَبَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ رِجْلَيْهِ عَجْلَانَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ تَعَالَى : ( خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) [ الْأَنْبِيَاءِ : 37 ] ( فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) [ الْحِجْرِ : 30 ، 31 ] أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ . قَالَ اللَّهُ لَهُ : مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدِي ؟ قَالَ : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ، لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِمَنْ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ . قَالَ اللَّهُ لَهُ : اخْرُجْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ ، يَعْنِي : مَا يَنْبَغِي لَكَ ( أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ )[ ص: 230 ][ الْأَعْرَافِ : 13 ] وَالصَّغَارُ : هُوَ الذُّلُّ . قَالَ : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) ثُمَّ عَرَضَ الْخَلْقَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ( فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) أَنَّ بَنِي آدَمَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ ، فَقَالُوا ( سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) قَالَ اللَّهُ : ( يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) قَالَ : قَوْلُهُمْ : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ) فَهَذَا الَّذِي أَبْدَوْا ، وَأَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ يَعْنِي : مَا أَسَرَّ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبْرِ .
فَهَذَا الْإِسْنَادُ إِلَى هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ مَشْهُورٌ فِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ وَيَقَعُ فِيهِ إِسْرَائِيلِيَّاتُ كَثِيرَةٌ ، فَلَعَلَّ بَعْضَهَا مُدْرَجٌ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الصَّحَابَةِ ، أَوْ أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ مِنْ بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْحَاكِمُ يَرْوِي فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ أَشْيَاءَ ، وَيَقُولُ : [ هُوَ ] عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ .
وَالْغَرَضُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ دَخَلَ إِبْلِيسُ فِي خِطَابِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عُنْصُرِهِمْ - إِلَّا أَنَّهُ كَانَ قَدْ تَشَبَّهَ بِهِمْ وَتَوَسَّمَ بِأَفْعَالِهِمْ ؛ فَلِهَذَا دَخَلَ فِي الْخِطَابِ لَهُمْ ، وَذُمَّ فِي مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ . وَسَنَبْسُطُ الْمَسْأَلَةَ إِنَّ - شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - عِنْدَ قَوْلِهِ : ( إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ )[الْكَهْفِ: 50 ] .
وَلِهَذَا قَالَ : مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ خَلَّادٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ طَاوُسٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ إِبْلِيسُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ الْمَعْصِيَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اسْمُهُ عَزَازِيلُ ، وَكَانَ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ الْمَلَائِكَةِ اجْتِهَادًا ، وَأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا ؛ فَذَلِكَ دَعَاهُ إِلَى الْكِبْرِ ، وَكَانَ مِنْ حَيٍّ يُسَمَّوْنَ جِنًّا .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ خَلَّادٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ طَاوُسٍ - أَوْ مُجَاهِدٍ - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَوْ غَيْرِهِ ، بِنَحْوِهِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، حَدَّثَنَا عَبَّادٌ - يَعْنِي : ابْنَ الْعَوَّامِ - عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ إِبْلِيسُ اسْمُهُ عَزَازِيلُ ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ ذَوِي الْأَجْنِحَةِ الْأَرْبَعَةِ ، ثُمَّ أَبْلَسَ بَعْدُ .
وَقَالَ سُنَيْدٌ ، عَنْ حَجَّاجٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ أَشْرَافِ الْمَلَائِكَةِ وَأَكْرَمُهُمْ قَبِيلَةً ، وَكَانَ خَازِنًا عَلَى الْجِنَانِ ، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ سَمَاءِ الدُّنْيَا ، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ الْأَرْضِ .
وَهَكَذَا رَوَى الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، سَوَاءً .
وَقَالَ صَالِحٌ مَوْلَى التَّوْءَمَةِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : إِنَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا يُقَالُ لَهُمُ : الْجِنُّ ، وَكَانَ إِبْلِيسُ [ ص: 231 ] مِنْهُمْ ، وَكَانَ يَسُوسُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، فَعَصَى ، فَمَسَخَهُ اللَّهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا . رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ .
وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ : كَانَ إِبْلِيسُ رَئِيسَ مَلَائِكَةِ سَمَاءِ الدُّنْيَا .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ، حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ ، عَنْ عَوْفٍ ، عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : مَا كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ ، وَإِنَّهُ لَأَصْلُ الْجِنِّ ، كَمَا أَنَّ آدَمَ أَصْلُ الْإِنْسِ . وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَنِ الْحَسَنِ . وَهَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ سَوَاءً .
وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ : كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ طَرَدَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ ، فَأَسَرَهُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ .
وَقَالَ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى ، عَنْ مُوسَى بْنِ نُمَيْرٍ وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَامِلٍ ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تُقَاتِلُ الْجِنَّ ، فَسُبِيَ إِبْلِيسُ وَكَانَ صَغِيرًا ، فَكَانَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ ، فَتَعَبَّدَ مَعَهَا ، فَلَمَّا أُمِرُوا بِالسُّجُودِ لِآدَمَ سَجَدُوا ، فَأَبَى إِبْلِيسُ . فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : ( إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) [ الْكَهْفِ : 50 ] .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ ، عَنْ شَرِيكٍ ، عَنْ رَجُلٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقًا ، فَقَالَ : اسْجُدُوا لِآدَمَ . فَقَالُوا : لَا نَفْعَلُ . فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ ، ثُمَّ خَلَقَ خَلْقًا آخَرَ ، فَقَالَ : إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ، اسْجُدُوا لِآدَمَ . قَالَ : فَأَبَوْا . فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ . ثُمَّ خَلَقَ هَؤُلَاءِ ، فَقَالَ : اسْجُدُوا لِآدَمَ ، قَالُوا : نَعَمْ . وَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَبَوْا أَنْ يَسْجُدُوا لِآدَمَ . وَهَذَا غَرِيبٌ ، وَلَا يَكَادُ يَصِحُّ إِسْنَادُهُ ، فَإِنَّ فِيهِ رَجُلًا مُبْهَمًا ، وَمِثْلُهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) فَكَانَتِ الطَّاعَةُ لِلَّهِ ، وَالسَّجْدَةُ أَكْرَمَ اللَّهُ آدَمَ بِهَا أَنْ أَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ .
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) حَسَدَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ آدَمَ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْكَرَامَةِ ، وَقَالَ : أَنَا نَارِيٌّ وَهَذَا طِينِيٌّ ، وَكَانَ بَدْءُ الذُّنُوبِ الْكِبْرَ ، اسْتَكْبَرَ عَدُوُّ اللَّهِ أَنْ يَسْجُدَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ حَيَّانَ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ : قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) مِنَ الَّذِينَ أَبَوْا ، فَأَحْرَقَتْهُمُ النَّارُ .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ، عَنِ الرَّبِيعِ ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ : ( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) يَعْنِي : مِنَ الْعَاصِينَ .
وَقَالَ السُّدِّيُّ : ( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) الَّذِينَ لَمْ يَخْلُقْهُمُ اللَّهُ يَوْمَئِذٍ يَكُونُونَ بَعْدُ [ ص: 232 ]
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ : ابْتَدَأَ اللَّهُ خَلْقَ إِبْلِيسَ عَلَى الْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ ، وَعَمِلَ بِعَمَلِ الْمَلَائِكَةِ ، فَصَيَّرَهُ إِلَى مَا أَبْدَى عَلَيْهِ خَلْقَهُ مِنَ الْكُفْرِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ )
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : كَانَ هَذَا سُجُودُ تَحِيَّةٍ وَسَلَامٍ وَإِكْرَامٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) [ يُوسُفَ : 100 ] وَقَدْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَلَكِنَّهُ نُسِخَ فِي مِلَّتِنَا ، قَالَ مُعَاذٌ : قَدِمْتُ الشَّامَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ ، فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُسْجَدَ لَكَ ، فَقَالَ : لَا ، لَوْ كُنْتُ آمِرًا بَشَرًا أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا وَرَجَّحَهُ الرَّازِيُّ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ كَانَتِ السَّجْدَةُ لِلَّهِ وَآدَمُ قِبْلَةٌ فِيهَا كَمَا قَالَ : ( أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) [ الْإِسْرَاءِ : 78 ] وَفِي هَذَا التَّنْظِيرِ نَظَرٌ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى ، وَالسَّجْدَةَ لِآدَمَ إِكْرَامًا وَإِعْظَامًا وَاحْتِرَامًا وَسَلَامًا ، وَهِيَ طَاعَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ لِأَنَّهَا امْتِثَالٌ لِأَمْرِهِ تَعَالَى ، وَقَدْ قَوَّاهُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَضَعَّفَ مَا عَدَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَهُمَا كَوْنُهُ جُعِلَ قِبْلَةً إِذْ لَا يَظْهَرُ فِيهِ شَرَفٌ ، وَالْآخَرُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّجُودِ الْخُضُوعُ لَا الِانْحِنَاءُ وَوَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَ .قُلْتُ : وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ وَقَدْ كَانَ فِي قَلْبِ إِبْلِيسَ مِنَ الْكِبْرِ - وَالْكُفْرِ - وَالْعِنَادِ مَا اقْتَضَى طَرْدَهُ وَإِبْعَادَهُ عَنْ جَنَابِ الرَّحْمَةِ وَحَضْرَةِ الْقُدْسِ ؛ قَالَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ : وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ أَيْ : وَصَارَ مِنَ الْكَافِرِينَ بِسَبَبِ امْتِنَاعِهِ ، كَمَا قَالَ : ( فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ) [ هُودٍ : 43 ] وَقَالَ ( فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ )[الْبَقَرَةِ : 35 ] وَقَالَ الشَّاعِرُ :
بِتَيْهَاءَ قَفْرٌ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا قَطَا الْحُزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا
أَيْ : قَدْ صَارَتْ ، وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ : تَقْدِيرُهُ : وَقَدْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنَ الْكَافِرِينَ ، وَرَجَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَذَكَرَ هَاهُنَا مَسْأَلَةً فَقَالَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا مَنْ أَظْهَرَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ كَرَامَاتٍ وَخَوَارِقَ لِلْعَادَاتِ فَلَيْسَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى وِلَايَتِهِ ، خِلَافًا لِبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ هَذَا لَفْظُهُ . ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى مَا قَالَ : بِأَنَّا لَا نَقْطَعُ بِهَذَا الَّذِي جَرَى الْخَارِقُ عَلَى يَدَيْهِ أَنَّهُ يُوَافِي اللَّهَ بِالْإِيمَانِ ، وَهُوَ لَا يَقْطَعُ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ ، يَعْنِي وَالْوَلِيُّ الَّذِي يُقْطَعُ لَهُ بِذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ .
قُلْتُ : وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْخَارِقَ قَدْ يَكُونُ عَلَى يَدَيْ غَيْرِ الْوَلِيِّ ، بَلْ قَدْ يَكُونُ عَلَى يَدِ الْفَاجِرِ وَالْكَافِرِ ، أَيْضًا ، بِمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ صَيَّادٍ أَنَّهُ قَالَ : هُوَ الدُّخُّ حِينَ خَبَّأَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ) [ الدُّخَانِ : 10 ] ، وَبِمَا كَانَ يَصْدُرُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَمْلَأُ الطَّرِيقَ إِذَا غَضِبَ حَتَّى ضَرَبَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَبِمَا ثَبَتَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ عَنِ الدَّجَّالِ بِمَا يَكُونُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْخَوَارِقِ الْكَثِيرَةِ مِنْ أَنَّهُ يَأْمُرُ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرُ ، وَالْأَرْضَ أَنْ تُنْبِتَ فَتُنْبِتُ ، وَتَتْبَعُهُ كُنُوزُ الْأَرْضِ [ ص: 233 ] مِثْلَ الْيَعَاسِيبِ ، وَأَنَّهُ يَقْتُلُ ذَلِكَ الشَّابَّ ثُمَّ يُحْيِيهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمَهُولَةِ . وَقَدْ قَالَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ : قُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ : كَانَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يَقُولُ : إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : قَصَرَ اللَّيْثُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، بَلْ إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَقَدْ حَكَى فَخْرُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ : هَلِ الْمَأْمُورُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ خَاصٌّ بِمَلَائِكَةِ الْأَرْضِ ، أَوْ عَامٌّ بِمَلَائِكَةِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَر ، وَقَدْ رَجَّحَ كُلًّا مِنَ الْقَوْلَيْنِ طَائِفَةٌ ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْعُمُومُ : ( فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ ) [ الْحِجْرِ : 30 ، 31 ، ص : 73 ، 74 ] ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ مُقَوِّيَةٌ لِلْعُمُومِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
29
( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ( 35 ) فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( 36 )
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَمَّا أَكْرَمَ بِهِ آدَمَ : بَعْدَ أَنْ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ : إِنَّهُ أَبَاحَهُ الْجَنَّةَ يَسْكُنُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ، وَيَأْكُلُ مِنْهَا مَا شَاءَ رَغَدًا ، أَيْ : هَنِيئًا وَاسِعًا طَيِّبًا .
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الدَّامَغَانِيِّ ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، عَنْ مِيكَائِيلَ ، عَنْ لَيْثٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي ذَرٍ : قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَرَيْتَ آدَمَ ، أَنَبِيًّا كَانَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، نَبِيًّا رَسُولًا كَلَّمَهُ اللَّهُ قِبَلًا فَقَالَ : ( اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي أُسْكِنَهَا آدَمُ ، أَهِيَ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ ؟ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْأَوَّلِ [ وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا فِي الْأَرْضِ ] ، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ قَبْلَ دُخُولِ آدَمَ الْجَنَّةَ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، حَيْثُ قَالَ : لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ مُعَاتَبَةِ إِبْلِيسَ ، أَقْبَلَ عَلَى آدَمَ وَقَدْ عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ، فَقَالَ : ( يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ) إِلَى قَوْلِهِ : ( إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) قَالَ : ثُمَّ أُلْقِيَتِ السِّنَةُ عَلَى آدَمَ - فِيمَا بَلَغَنَا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ - ثُمَّ أَخَذَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ مِنْ شِقِّهِ الْأَيْسَرِ ، وَلَأَمَ مَكَانَهُ لَحْمًا ، وَآدَمُ نَائِمٌ لَمْ يَهُبَّ مِنْ [ ص: 234 ] نَوْمِهِ ، حَتَّى خَلَقَ اللَّهُ مِنْ ضِلْعِهِ تِلْكَ زَوْجَتَهُ حَوَّاءُ ، فَسَوَّاهَا امْرَأَةً لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا . فَلَمَّا كُشِفَ عَنْهُ السِّنَةُ وَهَبَّ مِنْ نَوْمِهِ ، رَآهَا إِلَى جَنْبِهِ ، فَقَالَ - فِيمَا يَزْعُمُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ - : لَحْمِي وَدَمِي وَرُوحِي . فَسَكَنَ إِلَيْهَا . فَلَمَّا زَوَّجَهُ اللَّهُ ، وَجَعَلَ لَهُ سَكَنًا مِنْ نَفْسِهِ ، قَالَ لَهُ قِبَلًا ( يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ )
وَيُقَالُ : إِنَّ خَلْقَ حَوَّاءَ كَانَ بَعْدَ دُخُولِهِ الْجَنَّةَ ، كَمَا قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ ، ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَنْ مُرَّةَ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ : أُخْرِجُ إِبْلِيسُ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَأُسْكِنَ آدَمُ الْجَنَّةَ ، فَكَانَ يَمْشِي فِيهَا وَحْشًا لَيْسَ لَهُ زَوْجٌ يَسْكُنُ إِلَيْهِ ، فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ ، وَعِنْدَ رَأْسِهِ امْرَأَةٌ قَاعِدَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ ضِلْعِهِ ، فَسَأَلَهَا : مَا أَنْتِ ؟ قَالَتِ : امْرَأَةٌ . قَالَ : وَلِمَ خُلِقْتِ ؟ قَالَتْ : لِتَسْكُنَ إِلَيَّ . قَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ - يَنْظُرُونَ مَا بَلَغَ مِنْ عِلْمِهِ - : مَا اسْمُهَا يَا آدَمُ ؟ قَالَ : حَوَّاءُ . قَالُوا : وَلِمَ سُمِّيَتْ حَوَّاءَ ؟ قَالَ : إِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ شَيْءٍ حَيٍّ . قَالَ اللَّهُ : ( يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا )
وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) فَهُوَ اخْتِبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَامْتِحَانٌ لِآدَمَ . وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ : مَا هِيَ ؟
فَقَالَ السُّدِّيُّ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : الشَّجَرَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هِيَ الْكَرْمُ . وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَجَعْدَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ .
وَقَالَ السُّدِّيُّ - أَيْضًا - فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ : ( وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) هِيَ الْكَرْمُ . وَتَزْعُمُ يَهُودُ أَنَّهَا الْحِنْطَةُ .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَمُرَةَ الْأَحْمَسِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ أَبُو عُمَرَ الْخَرَّازُ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : الشَّجَرَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هِيَ السُّنْبُلَةُ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَنْبَأَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عِمَارَةَ ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : هِيَ السُّنْبُلَةُ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَنْ حَجَّاجٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : هِيَ الْبُرُّ .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ ، حَدَّثَنِي[ ص: 235 ]
رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَتَبَ إِلَى أَبِي الْجَلْدِ يَسْأَلُهُ عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَكَلَ مِنْهَا آدَمُ ، وَالشَّجَرَةِ الَّتِي تَابَ عِنْدَهَا آدَمُ . فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو الْجَلْدِ : سَأَلْتَنِي عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا آدَمُ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَهِيَ السُّنْبُلَةُ ، وَسَأَلْتَنِي عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي تَابَ عِنْدَهَا آدَمُ وَهِيَ الزَّيْتُونَةُ .
وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ ، وَعَطِيَّةُ الْعَوفِيُّ ، وَأَبُو مَالِكٍ ، وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْيَمَنِ ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ : أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : هِيَ الْبُرُّ ، وَلَكِنَّ الْحَبَّةَ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ كَكُلَى الْبَقَرِ ، أَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ .
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، عَنْ حَصِينٍ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ : ( وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) قَالَ : النَّخْلَةُ .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : ( وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) قَالَ : تِينَةٌ . وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ : كَانَتِ الشَّجَرَةُ مَنْ أَكَلَ مِنْهَا أَحْدَثَ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ حَدَثٌ ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُهْرِبٍ قَالَ : سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ : لَمَّا أَسْكَنَ اللَّهُ آدَمَ وَزَوْجَتَهُ الْجَنَّةَ ، وَنَهَاهُ عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ ، وَكَانَتْ شَجَرَةً غُصُونُهَا مُتَشَعِّبٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ، وَكَانَ لَهَا ثَمَرٌ تَأْكُلُهُ الْمَلَائِكَةُ لِخُلْدِهِمْ ، وَهِيَ الثَّمَرَةُ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا آدَمَ وَزَوْجَتَهُ .
فَهَذِهِ أَقْوَالٌ سِتَّةٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ .
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَهَى آدَمَ وَزَوْجَتَهُ عَنْ أَكْلِ شَجَرَةٍ بِعَيْنِهَا مِنْ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ ، دُونَ سَائِرِ أَشْجَارِهَا ، فَأَكَلًا مِنْهَا ، وَلَا عِلْمَ عِنْدِنَا بِأَيِّ شَجَرَةٍ كَانَتْ عَلَى التَّعْيِينِ ؟ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ لِعِبَادِهِ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ . وَقَدْ قِيلَ : كَانَتْ شَجَرَةَ الْبُرِّ . وَقِيلَ : كَانَتْ شَجَرَةَ الْعِنَبِ ، وَقِيلَ : كَانَتْ شَجَرَةَ التِّينِ . وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً مِنْهَا ، وَذَلِكَ عِلْمٌ ، إِذَا عُلِمَ يَنْفَعُ الْعَالِمَ بِهِ عِلْمُهُ ، وَإِنْ جَهِلَهُ جَاهِلٌ لَمْ يَضُرَّهُ جَهْلُهُ بِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .[وَكَذَلِكَ رَجَّحَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَغَيْرُهُ ، وَهُوَ الصَّوَابُ ] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ) يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : ( عَنْهَا ) عَائِدًا إِلَى [ ص: 236 ] الْجَنَّةِ ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ كَمَا قَالَ [ حَمْزَةُ وَ ] عَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي النَّجُودِ ، فَأَزَالَهُمَا ، أَيْ : فَنَجَّاهُمَا . وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِينَ ، وَهُوَ الشَّجَرَةُ ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ ( فَأَزَلَّهُمَا ) أَيْ : مِنْ قَبِيلِ الزَّلَلِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ) أَيْ : بِسَبَبِهَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) [ الذَّارِيَاتِ : 9 ] أَيْ : يُصْرَفُ بِسَبَبِهِ مَنْ هُوَ مَأْفُوكٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : ( فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ) أَيْ : مِنَ اللِّبَاسِ وَالْمَنْزِلِ الرَّحْبِ وَالرِّزْقِ الْهَنِيءِ وَالرَّاحَةِ .
(وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) أَيْ : قَرَارٌ وَأَرْزَاقٌ وَآجَالٌ ( إِلَى حِينٍ ) أَيْ : إِلَى وَقْتٍ مُؤَقَّتٍ وَمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ ، ثُمَّ تَقُومُ الْقِيَامَةُ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ السَّلَفِ كَالسُّدِّيِّ بِأَسَانِيدِهِ ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَغَيْرِهِمْ هَاهُنَا أَخْبَارًا إِسْرَائِيلِيَّةً عَنْ قِصَّةِ الْحَيَّةِ ، وَإِبْلِيسَ ، وَكَيْفَ جَرَى مِنْ دُخُولِ إِبْلِيسَ إِلَى الْجَنَّةِ وَوَسْوَسَتِهِ ، وَسَنَبْسُطُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ ، فَهُنَاكَ الْقِصَّةُ أَبْسَطُ مِنْهَا هَاهُنَا ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ إِشْكَابَ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ رَجُلًا طِوَالًا كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ ، كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ ، فَلَمَّا ذَاقَ الشَّجَرَةَ سَقَطَ عَنْهُ لِبَاسُهُ ، فَأَوَّلُ مَا بَدَا مِنْهُ عَوْرَتُهُ ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى عَوْرَتِهِ جَعَلَ يَشْتَدُّ فِي الْجَنَّةِ ، فَأَخَذَتْ شَعْرَهُ شَجَرَةٌ ، فَنَازَعَهَا ، فَنَادَاهُ الرَّحْمَنُ : يَا آدَمُ ، مِنِّي تَفِرُّ ! فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَ الرَّحْمَنِ قَالَ : يَا رَبِّ ، لَا وَلَكِنِ اسْتِحْيَاءً .
قَالَ : وَحَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَكَمِ الْقُومَشِيُّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ ، حَدَّثَنَا سُلَيْمُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ ، عَنْ سَعِيدٍ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمَّا ذَاقَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ فَرَّ هَارِبًا ؛ فَتَعَلَّقَتْ شَجَرَةٌ بِشَعْرِهِ ، فَنُودِيَ : يَا آدَمُ ، أَفِرَارًا مِنِّي ؟ قَالَ : بَلْ حَيَاءً مِنْكَ ، قَالَ : يَا آدَمُ اخْرُجْ مِنْ جِوَارِي ؛ فَبِعِزَّتِي لَا يُسَاكِنُنِي فِيهَا مَنْ عَصَانِي ، وَلَوْ خَلَقْتُ مِثْلَكَ مِلْءَ الْأَرْضِ خَلْقًا ثُمَّ عَصَوْنِي لَأَسْكَنْتُهُمْ دَارَ الْعَاصِينَ .
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ ، بَلْ إِعْضَالٌ بَيْنَ قَتَادَةَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَقَالَ الْحَاكِمُ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ بَالُوَيْهِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ زَائِدَةَ ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْبَجَلِيِّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : مَا أُسْكِنَ[ ص: 237]آدَمُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ . ثُمَّ قَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ .
وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ : حَدَّثَنَا رَوْحٌ ، عَنْ هِشَامٍ ، عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : لَبِثَ آدَمُ فِي الْجَنَّةِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، تِلْكَ السَّاعَةُ ثَلَاثُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، قَالَ : خَرَجَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ لِلسَّاعَةِ التَّاسِعَةِ أَوِ الْعَاشِرَةِ ، فَأَخْرَجَ آدَمُ مَعَهُ غُصْنًا مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ ، عَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ وَهُوَ الْإِكْلِيلُ مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ .
وَقَالَ السُّدِّيُّ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ) فَهَبَطُوا فَنَزَلَ آدَمُ بِالْهِنْدِ ، وَنَزَلَ مَعَهُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ ، وَقَبْضَةٌ مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ فَبَثَّهُ بِالْهِنْدِ ، فَنَبَتَتْ شَجَرَةُ الطِّيبِ ، فَإِنَّمَا أَصْلُ مَا يُجَاءُ بِهِ مِنَ الْهِنْدِ مِنَ الطِّيبِ مِنْ قَبْضَةِ الْوَرَقِ الَّتِي هَبَطَ بِهَا آدَمُ ، وَإِنَّمَا قَبَضَهَا آدَمُ أَسَفًا عَلَى الْجَنَّةِ حِينَ أُخْرِجَ مِنْهَا .
وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : أُهْبِطَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ بِدَحْنَا ، أَرْضِ الْهِنْدِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أُهْبِطَ آدَمُ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، إِلَى أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا : دَحْنَا ، بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ .
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ : أُهْبِطَ آدَمُ بِالْهِنْدِ ، وَحَوَّاءُ بِجُدَّةَ ، وَإِبْلِيسُ بِدَسْتُمِيسَانَ مِنَ الْبَصْرَةِ عَلَى أَمْيَالٍ ، وَأُهْبِطَتِ الْحَيَّةُ بِأَصْبَهَانَ . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارِ بْنِ الْحَارِثِ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ سَابِقٍ ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ ، عَنِ ابْنِ عَدِيٍّ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : أُهْبِطَ آدَمُ بِالصَّفَا ، وَحَوَّاءُ بِالْمَرْوَةِ
وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ سَلَمَةَ : أُهْبِطَ آدَمُ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، يَدَاهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ مُطَأْطِئًا رَأْسَهُ ، وَأُهْبِطَ إِبْلِيسُ مُشَبِّكًا بَيْنَ أَصَابِعِهِ رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : قَالَ مَعْمَرٌ : أَخْبَرَنِي عَوْفٌ عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ ، عَنْ أَبِي مُوسَى ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ حِينَ أَهْبَطَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ ، عَلَّمَهُ صَنْعَةَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَزَوَّدَهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ ، فَثِمَارُكُمْ هَذِهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ تَتَغَيَّرُ وَتِلْكَ لَا تَتَغَيَّرُ .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ص: 238] خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .
وَقَالَ فَخْرُ الدِّينِ : اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَهْدِيدًا عَظِيمًا عَنْ كُلِّ الْمَعَاصِي مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ مَنْ تَصَوَّرَ مَا جَرَى عَلَى آدَمَ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى هَذِهِ الزَّلَّةِ الصَّغِيرَةِ كَانَ عَلَى وَجَلٍ شَدِيدٍ مِنَ الْمَعَاصِي ، قَالَ الشَّاعِرُ :
يَا نَاظِرًا يَرْنُو بِعَيْنَيْ رَاقِدٍ وَمُشَاهِدًا لِلْأَمْرِ غَيْرَ مُشَاهِدِ تَصِلُ الذُّنُوبَ إِلَى الذُّنُوبِ وَتَرْتَجِي
دَرَجَ الْجِنَانِ وَنَيْلَ فَوْزِ الْعَابِدِ أَنَسِيتَ رَبَّكَ حِينَ أَخْرَجَ آدَمًا
مِنْهَا إِلَى الدُّنْيَا بِذَنْبٍ وَاحِدِ
قَالَ فَخْرُ الدِّينِ عَنْ فَتْحٍ الْمَوْصِلِيِّ أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَسَبَانَا إِبْلِيسُ إِلَى الدُّنْيَا ، فَلَيْسَ لَنَا إِلَّا الْهَمُّ وَالْحُزْنُ حَتَّى نُرَدَّ إِلَى الدَّارِ الَّتِي أُخْرِجْنَا مِنْهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَتْ جَنَّةُ آدَمَ الَّتِي أُسْكِنَهَا فِي السَّمَاءِ كَمَا يَقُولُهُ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، فَكَيْفَ يُمَكَّنُ إِبْلِيسُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ ، وَقَدْ طُرِدَ مِنْ هُنَالِكَ طَرْدًا قَدَرِيًّا ، وَالْقَدَرِيُّ لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ ؟ فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا بِعَيْنِهِ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ يَقُولُ : إِنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي كَانَ فِيهَاآدَمُ فِي الْأَرْضِ لَا فِي السَّمَاءِ ، وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي أَوَّلِ كِتَابِنَا " الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ " ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَجْوِبَةٍ ، أَحَدُهَا : أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ مُكَرَّمًا ، فَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الرَّدْعِ وَالْإِهَانَةِ ، فَلَا يَمْتَنِعُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ : كَمَا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ دَخَلَ فِي فَمِ الْحَيَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَسْوَسَ لَهُمَا وَهُوَ خَارِجُ بَابِ الْجَنَّةِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَسْوَسَ لَهُمَا وَهُوَ فِي الْأَرْضِ ، وَهُمَا فِي السَّمَاءِ ، ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ . وَقَدْ أَوْرَدَ الْقُرْطُبِيُّ هَاهُنَا أَحَادِيثَ فِي الْحَيَّاتِ وَقَتْلِهِنَّ وَبَيَانِ حُكْمِ ذَلِكَ ، فَأَجَادَ وَأَفَادَ .
30
( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 37 )
قِيلَ : إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مُفَسَّرَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [ الْأَعْرَافِ : 23 ] رُوِيَ هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ ، وَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ، قَالَ : أَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ ، فَسَأَلْتُهُ : [ قُلْتُ ] : مَا الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ ؟ قَالَ : عَلَّمَ [ آدَمَ ] شَأْنَ الْحَجِّ[ص:239]
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ ، أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ : [ قَالَ ] : أَخْبَرَنِي مُجَاهِدٌ ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، أَنَّهُ قَالَ : قَالَ آدَمُ : يَا رَبِّ ، خَطِيئَتِيَ الَّتِي أَخْطَأْتُ شَيْءٌ كَتَبْتَهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ تَخْلُقَنِي ، أَوْ شَيْءٌ ابْتَدَعْتُهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي ؟ قَالَ : بَلْ شَيْءٌ كَتَبْتُهُ عَلَيْكَ قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَكَ . قَالَ : فَكَمَا كَتَبْتَهُ عَلَيَّ فَاغْفِرْ لِي . قَالَ : فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ )
وَقَالَ السُّدِّيُّ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ، قَالَ : قَالَ آدَمُ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ : يَا رَبِّ ، أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ ؟ قِيلَ لَهُ : بَلَى . وَنَفَخْتَ فِيَّ مِنْ رُوحِكَ ؟ قِيلَ لَهُ : بَلَى . وَعَطَسْتُ فَقُلْتَ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ ، وَسَبَقَتْ رَحْمَتُكَ غَضَبَكَ ؟ قِيلَ لَهُ : بَلَى ، وَكَتَبْتَ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَ هَذَا ؟ قِيلَ لَهُ : بَلَى . قَالَ : أَفَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ هَلْ أَنْتَ رَاجِعِي إِلَى الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ مَعْبَدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، بِنَحْوِهِ . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وَهَكَذَا فَسَّرَهُ السُّدِّيُّ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثًا شَبِيهًا بِهَذَا فَقَالَ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِشْكَابَ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ آدَمُ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَرَأَيْتَ يَا رَبِّ إِنْ تُبْتُ وَرَجَعْتُ ، أَعَائِدِي إِلَى الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَذَلِكَ قَوْلُهُ : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ) .
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ) قَالَ : إِنَّ آدَمَ لَمَّا أَصَابَ الْخَطِيئَةَ قَالَ : يَا رَبِّ ، أَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ وَأَصْلَحْتُ ؟ قَالَ اللَّهُ : إِذَنْ أُرْجِعُكَ إِلَى الْجَنَّةِ فَهِيَ مِنَ الْكَلِمَاتِ . وَمِنَ الْكَلِمَاتِ أَيْضًا : (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [ الْأَعْرَافِ : 23 ] .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ) قَالَ : الْكَلِمَاتُ : اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ، إِنَّكَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ، اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَارْحَمْنِي ، إِنَّكَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ . اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ ص: 240 ]
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) أَيْ : إِنَّهُ يَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ ، كَقَوْلِهِ : ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ) [ التَّوْبَةِ : 104 ] وَقَوْلُهُ : ( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ) [ النِّسَاءِ : 11 ] ، وَقَوْلُهُ : ( وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ) [ الْفُرْقَانِ : 71 ] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَيَتُوبُ عَلَى مَنْ يَتُوبُ وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ بِخَلْقِهِ وَرَحْمَتِهِ بِعَبِيدِهِ ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .
وَذَكَرْنَا فِي الْمَسْنَدِ الْكَبِيرِ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ وَهُوَ سُلَيْمَانُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ إِلَى الْأَرْضِ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرِّي وَعَلَانِيَتِي ، فَاقْبَلْ مَعْذِرَتِي ، وَتَعْلَمُ حَاجَتِي فَأَعْطِنِي سُؤْلِي ، وَتَعْلَمُ مَا عِنْدِي فَاغْفِرْ ذُنُوبِي ، أَسْأَلُكَ إِيمَانًا يُبَاشِرُ قَلْبِي ، وَيَقِينًا صَادِقًا حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَنِي إِلَّا مَا كَتَبْتَ لِي . قَالَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّكَ قَدْ دَعَوْتَنِي بِدُعَاءٍ أَسْتَجِيبُ لَكَ فِيهِ وَلِمَنْ يَدْعُونِي بِهِ ، وَفَرَّجْتُ هُمُومَهُ وَغُمُومَهُ ، وَنَزَعْتُ فَقْرَهُ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ ، وَأَجَرْتُ لَهُ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تَاجِرِ زِينَةَ الدُّنْيَا وَهِيَ كَلِمَاتُ عَهْدٍ وَإِنْ لَمْ يَزِدْهَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ .
31
( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 38 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 39 )
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا أَنْذَرَ بِهِ آدَمَ وَزَوْجَتَهُ وَإِبْلِيسَ حَتَّى أَهْبَطَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَالْمُرَادُ الذُّرِّيَّةُ - أَنَّهُ سَيُنْزِلُ الْكُتُبَ ، وَيَبْعَثُ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ ؛ كَمَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : الْهُدَى : الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ وَالْبَيَانُ ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ : الْهُدَى : مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ الْحَسَنُ : الْهُدَى الْقُرْآنُ . وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ صَحِيحَانِ ، وَقَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ أَعَمُّ .
( فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ ) أَيْ : مَنْ أَقْبَلَ عَلَى مَا أَنْزَلْتُ بِهِ الْكُتُبَ وَأَرْسَلْتُ بِهِ الرُّسُلَ ( فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) أَيْ : فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ ( وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ " طه " : ( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ) [ طه : 123 ] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَلَا يَضِلُّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ . ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) [ طه : 124 ] كَمَا قَالَ هَاهُنَا : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) أَيْ : مُخَلَّدُونَ فِيهَا ، لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا ، وَلَا مَحِيصَ .
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، هَاهُنَا حَدِيثًا سَاقَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ ، [ ص: 241 ] عَنْ أَبِي نَضْرَةَ الْمُنْذِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ قِطْعَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - وَاسْمُهُ سَعْدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ الْخُدْرِيُّ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ ، لَكِنَّ أَقْوَامًا أَصَابَتْهُمُ النَّارُ بِخَطَايَاهُمْ ، أَوْ بِذُنُوبِهِمْ فَأَمَاتَتْهُمْ إِمَاتَةً ، حَتَّى إِذَا صَارُوا فَحْمًا أُذِنَ فِي الشَّفَاعَةِ . وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِهِ .
[ وَذِكْرُ هَذَا الْإِهْبَاطَ الثَّانِي لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْمَعْنَى الْمُغَايِرِ لِلْأَوَّلِ ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ وَتَكْرِيرٌ ، كَمَا تَقُولُ : قُمْ قُمْ ، وَقَالَ آخَرُونَ : بَلِ الْإِهْبَاطُ الْأَوَّلُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، وَالثَّانِي مِنْ سَمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ كِتَابِهِ ] .
32
( يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ( 40 ) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ( 41 )
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَمُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ ، وَمُهَيِّجًا لَهُمْ بِذِكْرِ أَبِيهِمْ إِسْرَائِيلَ ، وَهُوَ نَبِيُّ اللَّهِ يَعْقُوبُ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَتَقْدِيرُهُ : يَا بَنِي الْعَبْدِ الصَّالِحِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ كُونُوا مِثْلَ أَبِيكُمْ فِي مُتَابَعَةِ الْحَقِّ ، كَمَا تَقُولُ : يَا ابْنَ الْكَرِيمِ ، افْعَلْ كَذَا . يَا ابْنَ الشُّجَاعِ ، بَارِزِ الْأَبْطَالَ ، يَا ابْنَ الْعَالِمِ ، اطْلُبِ الْعِلْمَ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى :( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ) [ الْإِسْرَاءِ : 3 ] فَإِسْرَائِيلُ هُوَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَهْرَامَ ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ : حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُمْ : هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ يَعْقُوبُ ؟ . قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ اشْهَدْ وَقَالَ الْأَعْمَشُ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِسْرَائِيلَ كَقَوْلِكَ : عَبْدُ اللَّهِ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ) قَالَ مُجَاهِدٌ : نِعْمَةُ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ فِيمَا سَمَّى وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ ، فَجَّرَ لَهُمُ الْحَجَرَ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ، وَأَنْجَاهُمْ مِنْ عُبُودِيَّةِ آلِ فِرْعَوْنَ [ ص: 242 ]
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : نِعْمَتُهُ أَنْ جَعَلَ مِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ .
قُلْتُ : وَهَذَا كَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ : ( يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) [ الْمَائِدَةِ : 20 ] يَعْنِي فِي زَمَانِهِمْ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فِي قَوْلِهِ : ( اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ) أَيْ : بَلَائِي عِنْدَكُمْ وَعِنْدَ آبَائِكُمْ لِمَا كَانَ نَجَّاهُمْ بِهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) قَالَ : بِعَهْدِي الَّذِي أَخَذْتُ فِي أَعْنَاقِكُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَاءَكُمْ . ( أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) أَيْ : أُنْجِزُ لَكُمْ مَا وَعَدْتُكُمْ عَلَيْهِ بِتَصْدِيقِهِ وَاتِّبَاعِهِ ، بِوَضْعِ مَا كَانَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَعْنَاقِكُمْ بِذُنُوبِكُمُ الَّتِي كَانَتْ مِنْ إِحْدَاثِكُمْ .
[وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : هُوَ قَوْلُهُ : ( وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) الْآيَةَ [ الْمَائِدَةِ : 12 ] . وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ سَيَبْعَثُ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ نَبِيًّا عَظِيمًا يُطِيعُهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنِ اتَّبَعَهُ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ وَجَعَلَ لَهُ أَجْرَانِ . وَقَدْ أَوْرَدَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ هَاهُنَا بِشَارَاتٍ كَثِيرَةٍ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي ) قَالَ : عَهْدُهُ إِلَى عِبَادِهِ : دِينُهُ الْإِسْلَامُ أَنْ يَتَّبِعُوهُ .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) قَالَ : أَرْضَ عَنْكُمْ وَأُدْخِلْكُمُ الْجَنَّةَ .
وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) أَيْ : فَاخْشَوْنِ ؛ قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ ، وَقَتَادَةُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) أَيْ أُنْزِلُ بِكُمْ مَا أُنْزِلُ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ مِنَ النِّقْمَاتِ الَّتِي قَدْ عَرَفْتُمْ مِنَ الْمَسْخِ وَغَيْرِهِ .
وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنَ التَّرْغِيبِ إِلَى التَّرْهِيبِ ، فَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْحَقِّ وَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَالِاتِّعَاظِ بِالْقُرْآنِ وَزَوَاجِرِهِ ، وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ ، وَتَصْدِيقِ أَخْبَارِهِ ، وَاللَّهُ الْهَادِي لِمَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : ( وَآمِنُوا بِمَا أَنَزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ) [ ( مُصَدِّقًا ) مَاضِيًا مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنْ ( بِمَا ) أَيْ : بِالَّذِي أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ مِنْ قَوْلِهِمْ : بِمَا أَنْزَلْتُهُ مُصَدِّقًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِنْ غَيْرِ الْفِعْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ : ( بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا ) ] يَعْنِي بِهِ : الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الْعَرَبِيِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَسِرَاجًا مُنِيرًا مُشْتَمِلًا عَلَى الْحَقِّ مِنَ اللَّهِ [ ص: 243 ] تَعَالَى ، مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ .
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي قَوْلِهِ : ( وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ) يَقُولُ : يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ يَقُولُ : لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ .
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَتَادَةَ نَحْوُ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) [ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : أَوَّلُ فَرِيقٍ كَافِرٍ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ ] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : ( وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) وَعِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِكُمْ .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : يَقُولُ : ( وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ [ كَافِرٍ بِهِ ) أَوَّلَ ] مَنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ يَعْنِي مِنْ جِنْسِكُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ بَعْدَ سَمَاعِهِمْ بِمُحَمَّدٍ وَبِمَبْعَثِهِ ] .
وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ .
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ : ( بِهِ ) عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ ، الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ : ( بِمَا أَنْزَلْتُ )
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ ، لِأَنَّ مَنْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ فَقَدْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمِنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) فَيَعْنِي بِهِ أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ بَشَرٌ كَثِيرٌ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَوَّلُ مَنْ كَفَرَ بِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَاشَرَةً ، فَإِنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ أَوَّلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ خُوطِبُوا بِالْقُرْآنِ ، فَكُفْرُهُمْ بِهِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ كَفَرَ بِهِ مِنْ جِنْسِهِمْ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ) يَقُولُ : لَا تَعْتَاضُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِآيَاتِي وَتَصْدِيقِ رَسُولِي بِالدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا ، فَإِنَّهَا قَلِيلَةٌ فَانِيَةٌ ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ ، عَنْ هَارُونَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : سُئِلَ الْحَسَنُ ، يَعْنِي الْبَصْرِيَّ ، عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : ( ثَمَنًا قَلِيلًا ) قَالَ : الثَّمَنُ الْقَلِيلُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا .
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ : حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، فِي قَوْلِهِ : ( وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ) وَإِنَّ آيَاتِهِ : كِتَابُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ ، وَإِنَّ الثَّمَنَ الْقَلِيلَ : الدُّنْيَا وَشَهَوَاتُهَا .
وَقَالَ السُّدِّيُّ : ( وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ) يَقُولُ : لَا تَأْخُذُوا طَمَعًا قَلِيلًا وَلَا تَكْتُمُوا اسْمَ [ ص: 244 ] اللَّهِ لِذَلِكَ الطَّمَعِ وَهُوَ الثَّمَنُ .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ) يَقُولُ : لَا تَأْخُذُوا عَلَيْهِ أَجْرًا . قَالَ : وَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ : يَا ابْنَ آدَمَ عَلِّمْ مَجَّانًا كَمَا عُلِّمْتَ مَجَّانًا .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ لَا تَعْتَاضُوا عَنِ الْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ وَنَشْرِ الْعِلْمِ النَّافِعِ فِي النَّاسِ بِالْكِتْمَانِ وَاللَّبْسِ لِتَسْتَمِرُّوا عَلَى رِيَاسَتِكُمْ فِي الدُّنْيَا الْقَلِيلَةِ الْحَقِيرَةِ الزَّائِلَةِ عَنْ قَرِيبٍ ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَرُحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَمَّا تَعْلِيمُ الْعِلْمِ بِأُجْرَةٍ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ أُجْرَةً ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يَقُومُ بِهِ حَالُهُ وَعِيَالُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ وَقَطَعَهُ التَّعْلِيمُ عَنِ التَّكَسُّبِ ، فَهُوَ كَمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ أُجْرَةً عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةِ اللَّدِيغِ : إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ وَقَوْلُهُ فِي قِصَّةِ الْمَخْطُوبَةِ : زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ فَأَمَّا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، أَنَّهُ عَلَّمَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فَأَهْدَى لَهُ قَوْسًا ، فَسَأَلَ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تُطَوَّقَ بِقَوْسٍ مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهُ فَتَرَكَهُ ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا ، فَإِنْ صَحَّ إِسْنَادُهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ : أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ لَمْ يَجُزْ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ ثَوَابِ اللَّهِ بِذَلِكَ الْقَوْسِ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى التَّعْلِيمِ بِالْأُجْرَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ كَمَا فِي حَدِيثِ اللَّدِيغِ وَحَدِيثِ سَهْلٍ فِي الْمَخْطُوبَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْمُؤَدِّبُ ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ ، عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ ، قَالَ : التَّقْوَى أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ رَجَاءَ رَحْمَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ ، وَالتَّقْوَى أَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ مَخَافَةَ عَذَابِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ : ( وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) أَنَّهُ تَعَالَى يَتَوَعَّدُهُمْ فِيمَا يَتَعَمَّدُونَهُ مِنْ كِتْمَانِ الْحَقِّ وَإِظْهَارِ خِلَافِهِ وَمُخَالَفَتِهِمُ الرَّسُولَ ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ .
33
[ ص: 245 ]( ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ( 42 ) وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ( 43 )
يقول تعالى ناهيا لليهود عما كانوا يتعمدونه ، من تلبيس الحق بالباطل ، وتمويهه به وكتمانهم الحق وإظهارهم الباطل : ( ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ) فنهاهم عن الشيئين معا ، وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به ؛ ولهذا قال الضحاك ، عن ابن عباس ( ولا تلبسوا الحق بالباطل ) لا تخلطوا الحق بالباطل والصدق بالكذب .
وقال أبو العالية : ( ولا تلبسوا الحق بالباطل ) يقول : ولا تخلطوا الحق بالباطل ، وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
ويروى عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس ، نحوه .
وقال قتادة : ( ولا تلبسوا الحق بالباطل ) [ قال ] ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام ؛ إن دين الله الإسلام ، واليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله .
وروي عن الحسن البصري نحو ذلك .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ) أي : لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به ، وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم . وروي عن أبي العالية نحو ذلك .
وقال مجاهد ، والسدي ، وقتادة ، والربيع بن أنس : ( وتكتموا الحق ) يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم .
[ قلت : ( وتكتموا ) يحتمل أن يكون مجزوما ، ويجوز أن يكون منصوبا ، أي : لا تجمعوا بين هذا وهذا كما يقال : لا تأكل السمك وتشرب اللبن . قال الزمخشري : وفي مصحف ابن مسعود : وتكتمون الحق أي : في حال كتمانكم الحق وأنتم تعلمون حال أيضا ، ومعناه : وأنتم تعلمون الحق ، ويجوز أن يكون المعنى : وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار إلى أن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروجوه عليهم ، والبيان : الإيضاح ، وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل ] .
( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ) قال مقاتل : قوله تعالى لأهل الكتاب : ( وأقيموا الصلاة ) أمرهم أن يصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ( وآتوا الزكاة ) أمرهم أن يؤتوا الزكاة ، أي : يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ( واركعوا مع الراكعين ) أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم [ ص: 246 ]
يقول : كونوا منهم ومعهم .
وقال علي بن طلحة ، عن ابن عباس : [ ( وآتوا الزكاة ) ] يعني بالزكاة : طاعة الله والإخلاص .
وقال وكيع ، عن أبي جناب ، عن عكرمة عن ابن عباس ، في قوله : ( وآتوا الزكاة ) قال : ما يوجب الزكاة ؟ قال : مائتان فصاعدا .
وقال مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، في قوله تعالى : ( وآتوا الزكاة ) قال : فريضة واجبة ، لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير عن أبي حيان [ العجمي ] التيمي ، عن الحارث العكلي في قوله : ( وآتوا الزكاة ) قال : صدقة الفطر .
وقوله تعالى : ( واركعوا مع الراكعين ) أي : وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم ، ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة .
[ وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة ، وبسط ذلك في كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله ، وقد تكلم القرطبي على مسائل الجماعة والإمامة فأجاد ] .
34
( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ( 44 )
يقول تعالى : كيف يليق بكم - يا معشر أهل الكتاب ، وأنتم تأمرون الناس بالبر ، وهو جماع الخير - أن تنسوا أنفسكم ، فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به ، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب ، وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر الله ؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم ؛ فتنتبهوا من رقدتكم ، وتتبصروا من عمايتكم . وهذا كما قال عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة في قوله تعالى : ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) قال : كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه ، وبالبر ، ويخالفون ، فعيرهم الله ، عز وجل . وكذلك قال السدي .
وقال ابن جريج : ( أتأمرون الناس بالبر ) أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة ، ويدعون العمل بما يأمرون به الناس ، فعيرهم الله بذلك ، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة .
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وتنسون أنفسكم ) أي : تتركون أنفسكم ( وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) أي : تنهون الناس عن الكفر بما [ ص: 247 ] عندكم من النبوة والعهد من التوراة ، وتتركون أنفسكم ، أي : وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي ، وتنقضون ميثاقي ، وتجحدون ما تعلمون من كتابي .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس في هذه الآية ، يقول : أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة ، وتنسون أنفسكم .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني علي بن الحسن ، حدثنا مسلم الجرمي ، حدثنا مخلد بن الحسين ، عن أيوب السختياني ، عن أبي قلابة في قول الله تعالى : ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب ) قال : قال أبو الدرداء : لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية : هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل يسألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق ، فقال الله تعالى : ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )
والغرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم ، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه ، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له ، بل على تركهم له ، فإن الأمر بالمعروف [ معروف ] وهو واجب على العالم ، ولكن [ الواجب و ] الأولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به ، ولا يتخلف عنهم ، كما قال شعيب ، عليه السلام : ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ) [ هود : 88 ] . فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب ، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف . وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها ، وهذا ضعيف ، وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية ؛ فإنه لا حجة لهم فيها . والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف ، وإن لم يفعله ، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه ، [ قال مالك عن ربيعة : سمعت سعيد بن جبير يقول له : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر . وقال مالك : وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء ؟ قلت ] ولكنه - والحالة هذه - مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية ، لعلمه بها ومخالفته على بصيرة ، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم ؛ ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك ، كما قال الإمام أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي المعمري ، قالا حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا علي [ ص: 248 ] بن سليمان الكلبي ، حدثنا الأعمش ، عن أبي تميمة الهجيمي ، عن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه . هذا حديث غريب من هذا الوجه .
حديث آخر : قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : حدثنا وكيع ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد هو ابن جدعان ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مررت ليلة أسري بي على قوم شفاههم تقرض بمقاريض من نار . قال : قلت : من هؤلاء ؟ قالوا : خطباء من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون ؟ .
ورواه عبد بن حميد في مسنده ، وتفسيره ، عن الحسن بن موسى ، عن حماد بن سلمة به .
ورواه ابن مردويه في تفسيره ، من حديث يونس بن محمد المؤدب ، والحجاج بن منهال ، كلاهما عن حماد بن سلمة ، به .
وكذا رواه يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة به .
ثم قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم التستري ببلخ ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا عمر بن قيس ، عن علي بن زيد عن ثمامة ، عن أنس ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار . قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم .
وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه - أيضا - من حديث هشام الدستوائي ، عن المغيرة - يعني ابن حبيب - ختن مالك بن دينار ، عن مالك بن دينار ، عن ثمامة ، عن أنس بن مالك ، قال : لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم تقرض شفاههم ، فقال : يا جبريل ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ؛ أفلا يعقلون ؟ .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا الأعمش ، عن أبي وائل ، قال : قيل لأسامة - وأنا رديفه - : ألا تكلم عثمان ؟ فقال : إنكم ترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم . إني لا أكلمه فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمرا - لا أحب أن أكون أول من افتتحه ، والله لا أقول لرجل [ ص: 249 ] إنك خير الناس . وإن كان علي أميرا - بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، قالوا : وما سمعته يقول ؟ قال : سمعته يقول : يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ، فتندلق به أقتابه ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه ، فيطيف به أهل النار ، فيقولون : يا فلان ما أصابك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه .
ورواه البخاري ومسلم ، من حديث سليمان بن مهران الأعمش ، به نحوه .[ وقال أحمد : حدثنا سيار بن حاتم ، حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء . وقد ورد في بعض الآثار : أنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يغفر للعالم مرة واحدة ، ليس من يعلم كمن لا يعلم . وقال تعالى : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب ) [ الزمر : 9 ] . وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن أناسا من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون : بم دخلتم النار ؟ فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم ، فيقولون : إنا كنا نقول ولا نفعل رواه من حديث الطبراني عن أحمد بن يحيى بن حيان الرقي عن زهير بن عباد الرواسي عن أبي بكر الداهري عن عبد الله بن حكيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الوليد بن عقبة فذكره ] .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : إنه جاءه رجل ، فقال : يا ابن عباس ، إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، قال : أوبلغت ذلك ؟ قال : أرجو . قال : إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل . قال : وما هن ؟ قال : قوله عز وجل : ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) أحكمت هذه ؟ قال : لا . قال : فالحرف الثاني . قال : قوله تعالى : ( لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) [ الصف : 2 ، 3 ] أحكمت هذه ؟ قال : لا . قال : فالحرف الثالث . قال : قول العبد الصالح شعيب ، عليه السلام : ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) [ هود : 88 ] أحكمت هذه الآية ؟ قال : لا . قال : فابدأ بنفسك .
رواه ابن مردويه في تفسيره .
وقال الطبراني حدثنا عبدان بن أحمد ، حدثنا زيد بن الحريش ، حدثنا عبد الله بن خراش ، عن العوام بن حوشب ، عن [ سعيد بن ]المسيب بن رافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله[ ص: 250 ]
صلى الله عليه وسلم : من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في ظل سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال ، أو دعا إليه .
إسناده فيه ضعف ، وقال إبراهيم النخعي : إني لأكره القصص لثلاث آيات ؛ قوله تعالى : ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) وقوله : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) [ الصف : 2 ، 3 ] وقوله إخبارا عن شعيب : ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ) [ هود : 88 ] .
وما أحسن ما قال مسلم بن عمرو :
ما أقبح التزهيد من واعظ يزهد الناس ولا يزهد لو كان في تزهيده صادقا
أضحى وأمسى بيته المسجد إن رفض الناس فما باله
يستفتح الناس ويسترقد الرزق مقسوم على من ترى
يسقى له الأبيض والأسود
وقال بعضهم : جلس أبو عثمان الحيري الزاهد يوما على مجلس التذكير فأطال السكوت ، ثم أنشأ يقول :
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي والطبيب مريض
قال : فضج الناس بالبكاء . وقال أبو العتاهية الشاعر :
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى وريح الخطايا من ثيابك تسطع
وقال أبو الأسود الدؤلي :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد بن زيد البصري العابد الواعظ قال : دعوت الله أن يريني رفيقي في الجنة ، فقيل لي في المنام : هي امرأة في الكوفة يقال لها : ميمونة السوداء ، فقصدت الكوفة لأراها . فقيل لي : هي ترعى غنما بواد هناك ، فجئت إليها فإذا هي قائمة تصلي والغنم ترعى [ ص: 251 ] حولها وبينهن الذئاب لا ينفرن منه ، ولا يسطو الذئاب عليهن . فلما سلمت قالت : يا ابن زيد ، ليس الموعد هنا إنما الموعد ثم ، فسألتها عن شأن الذئاب والغنم . فقالت : إني أصلحت ما بيني وبين سيدي فأصلح ما بين الذئاب والغنم . فقلت لها : عظيني . فقالت : يا عجبا من واعظ يوعظ ، ثم قالت : يا ابن زيد ، إنك لو وضعت موازين القسط على جوارحك لخبرتك بمكتوم مكنون ما فيها ، يا ابن زيد ، إنه بلغني ما من عبد أعطى من الدنيا شيئا فابتغى إليه تائبا إلا سلبه الله حب الخلوة وبدله بعد القرب البعد وبعد الأنس الوحشة ثم أنشأت تقول :
يا واعظا قام لاحتساب يزجر قوما عن الذنوب تنهى وأنت السقيم حقا هذا من المنكر العجيب تنهى عن الغي والتمادي وأنت في النهي كالمريب لو كنت أصلحت قبل هذا غيك أو تبت من قريب كان لما قلت يا حبيبي موضع صدق من القلوب
35
( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين
( 45 ) الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون( 46) يقول تعالى آمرا عبيده ، فيما يؤملون من خير الدنيا والآخرة ، بالاستعانة بالصبر والصلاة ، كما قال مقاتل بن حيان في تفسير هذه الآية : استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض ، والصلاة .
فأما الصبر فقيل : إنه الصيام ، نص عليه مجاهد .
[ قال القرطبي وغيره : ولهذا سمي رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث ] .
وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن جري بن كليب ، عن رجل من بني سليم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الصوم نصف الصبر .
وقيل : المراد بالصبر الكف عن المعاصي ؛ ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها : فعل الصلاة .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن حمزة بن إسماعيل ، حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي سنان ، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : الصبر صبران : صبر عند المصيبة حسن ، وأحسن منه الصبر عن محارم الله [ ص: 252]
[ قال ] وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر .
وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة عن مالك بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، قال : الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب فيه ، واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه ، وقد يجزع الرجل وهو يتجلد ، لا يرى منه إلا الصبر .
وقال أبو العالية في قوله : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) على مرضاة الله ، واعلموا أنها من طاعة الله .
وأما قوله : ( والصلاة ) فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر ، كما قال تعالى : ( اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ) الآية [ العنكبوت : 45 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن عكرمة بن عمار ، عن محمد بن عبد الله الدؤلي ، قال : قال عبد العزيز أخو حذيفة ، قال حذيفة ، يعني ابن اليمان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى . ورواه أبو داود [ عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي ] .
وقد رواه ابن جرير ، من حديث ابن جريج ، عن عكرمة بن عمار ، عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة ، عن عبد العزيز بن اليمان ، عن حذيفة ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .
[ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة ؛ ويقال : أخي حذيفة مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة : حدثنا سهل بن عثمان أبو مسعود العسكري ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال : قال عكرمة بن عمار : قال محمد بن عبد الله الدؤلي : قال عبد العزيز : قال حذيفة : رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي ، وكان إذا حزبه أمر صلى . وحدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع عليا يقول : لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح ][ ص: 253 ]
قال ابن جرير : وروي عنه ، عليه الصلاة والسلام ، أنه مر بأبي هريرة ، وهو منبطح على بطنه ، فقال له : اشكنب درد [ قال : نعم ] قال : قم فصل فإن الصلاة شفاء [ ومعناه : أيوجعك بطنك ؟ قال : نعم ] . قال ابن جرير : وقد حدثنا محمد بن العلاء ويعقوب بن إبراهيم ، قالا حدثنا ابن علية ، حدثنا عيينة بن عبد الرحمن ، عن أبيه : أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر ، فاسترجع ، ثم تنحى عن الطريق ، فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول : ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) .
وقال سنيد ، عن حجاج ، عن ابن جرير : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) قال : إنهما معونتان على رحمة الله .
والضمير في قوله : ( وإنها ) عائد إلى الصلاة ، نص عليه مجاهد ، واختاره ابن جرير .
ويحتمل أن يكون عائدا على ما يدل عليه الكلام ، وهو الوصية بذلك ، كقوله تعالى في قصة قارون : ( وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون ) [ القصص : 80 ] وقال تعالى : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) [ فصلت : 34 ، 35 ] أي : وما يلقى هذه الوصية إلا الذين صبروا ( وما يلقاها ) أي : يؤتاها ويلهمها ( إلا ذو حظ عظيم )
وعلى كل تقدير ، فقوله تعالى : ( وإنها لكبيرة ) أي : مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين . قال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني المصدقين بما أنزل الله . وقال مجاهد : المؤمنين حقا . وقال أبو العالية : إلا على الخاشعين الخائفين ، وقال مقاتل بن حيان : إلا على الخاشعين يعني به المتواضعين . وقال الضحاك : ( وإنها لكبيرة ) قال : إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته ، الخائفين سطواته ، المصدقين بوعده ووعيده .
وهذا يشبه ما جاء في الحديث : لقد سألت عن عظيم ، وإنه ليسير على من يسره الله عليه .
وقال ابن جرير : معنى الآية : واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب ، بحبس أنفسكم على طاعة الله وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر ، المقربة من رضا الله ، العظيمة إقامتها إلا على المتواضعين لله المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته[ ص: 254 ]
هكذا قال ، والظاهر أن الآية وإن كانت خطابا في سياق إنذار بني إسرائيل ، فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص ، وإنما هي عامة لهم ولغيرهم . والله أعلم .
وقوله تعالى : ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون ) هذا من تمام الكلام الذي قبله ، أي : وإن الصلاة أو الوصاة لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ، أي : [ يعلمون أنهم ] محشورون إليه يوم القيامة ، معروضون عليه ، وأنهم إليه راجعون ، أي : أمورهم راجعة إلى مشيئته ، يحكم فيها ما يشاء بعدله ، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سهل عليهم فعل الطاعات وترك المنكرات .
فأما قوله : ( يظنون أنهم ملاقو ربهم ) قال ابن جرير ، رحمه الله : العرب قد تسمي اليقين ظنا ، والشك ظنا ، نظير تسميتهم الظلمة سدفة ، والضياء سدفة ، والمغيث صارخا ، والمستغيث صارخا ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده ، كما قال دريد بن الصمة :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد
يعني بذلك : تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم ، وقال عميرة بن طارق :
بأن يعتزوا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيبا مرجما
يعني : وأجعل مني اليقين غيبا مرجما ، قال : والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من أن تحصر ، وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية ، ومنه قول الله تعالى : ( ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ) [ الكهف:53]
ثم قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، قال : كل ظن في القرآن يقين ، أي : ظننت وظنوا .
وحدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا أبو داود الحفري ، عن سفيان عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كل ظن في القرآن فهو علم . وهذا سند صحيح .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله تعالى : ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) قال : الظن هاهنا يقين .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد ، والسدي ، والربيع بن أنس ، وقتادة نحو قول أبي العالية [ ص: 255 ]
وقال سنيد ، عن حجاج ، عن ابن جريج : ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) علموا أنهم ملاقو ربهم ، كقوله : ( إني ظننت أني ملاق حسابيه ) [ الحاقة : 20 ] يقول : علمت .
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
قلت : وفي الصحيح : أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : ألم أزوجك ، ألم أكرمك ، ألم أسخر لك الخيل والإبل ، وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول : بلى . فيقول الله تعالى : أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : لا . فيقول الله : اليوم أنساك كما نسيتني . وسيأتي مبسوطا عند قوله : ( نسوا الله فنسيهم ) [ التوبة : 67 ] إن شاء الله ، والله تعالى أعلم .
36
( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ( 47 )
يذكرهم تعالى سالف نعمه على آبائهم وأسلافهم ، وما كان فضلهم به من إرسال الرسل منهم وإنزال الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم ، كما قال تعالى : ( ولقد اخترناهم على علم على العالمين ) [ الدخان : 32 ] ، وقال تعالى : ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين)[ المائدة : 20 ] .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله تعالى : ( وأني فضلتكم على العالمين ) قال : بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان ؛ فإن لكل زمان عالما .
وروي عن مجاهد ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك ، ويجب الحمل على هذا ؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم ؛ لقوله تعالى خطابا لهذه الأمة : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم ) [ آل عمران : 110 ] وفي المسانيد والسنن عن معاوية بن حيدة القشيري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم توفون سبعين أمة ، أنتم خيرها وأكرمها على الله . والأحاديث في هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس )
[ وقيل : المراد تفضيل بنوع ما من الفضل على سائر الناس ، ولا يلزم تفضيلهم مطلقا ، حكاه فخر الدين الرازي وفيه نظر . وقيل : إنهم فضلوا على سائر الأمم لاشتمال أمتهم على الأنبياء منهم ، حكاه القرطبي في تفسيره ، وفيه نظر ؛ لأن ( العالمين ) عام يشمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء ، فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم ، ومحمد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين ]37[ص: 256 ] ) واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ( 48 ) )
لما ذكرهم [ الله ] تعالى بنعمه أولا عطف على ذلك التحذير من حلول نقمه بهم يوم القيامة فقال : ( واتقوا يوما ) يعني يوم القيامة ( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) أي : لا يغني أحد عن أحد كما قال : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) [ الأنعام : 164 ] ، وقال : ( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) [ عبس : 37 ] ، وقال ( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا ) [ لقمان : 33 ] ، فهذه أبلغ المقامات : أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئا ، وقوله تعالى : ( ولا يقبل منها شفاعة ) يعني عن الكافرين ، كما قال : ( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) [ المدثر : 48 ] ، وكما قال عن أهل النار : ( فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ) [ الشعراء : 110 ، 111 ] ، وقوله : ( ولا يؤخذ منها عدل ) أي : لا يقبل منها فداء ، كما قال تعالى : ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به ) [ آل عمران : 91 ] وقال : ( إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم ) [ المائدة : 36 ] وقال تعالى : ( وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها ) [ الأنعام : 70 ] ، وقال : ( فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ) الآية [ الحديد : 15 ] ، فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ، ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه ، فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة ذي جاه ، ولا يقبل منهم فداء ، ولو بملء الأرض ذهبا ، كما قال تعالى : ( من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ) [ البقرة : 254 ] ، وقال ( لا بيع فيه ولا خلال ) [ إبراهيم : 31 ] .
[ وقال سنيد : حدثني حجاج ، حدثني ابن جريج ، قال : قال مجاهد : قال ابن عباس : ( ولا يؤخذ منها عدل ) قال : بدل ، والبدل : الفدية ، وقال السدي : أما عدل فيعدلها من العذاب يقول : لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها ، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ] . وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : ( ولا يؤخذ منها عدل ) يعني : فداء .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي مالك ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، نحو ذلك .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه عن علي - رضي الله عنه - في حديث طويل ، قال : والصرف والعدل : التطوع والفريضة .
وكذا قال الوليد بن مسلم ، عن عثمان بن أبي العاتكة ، عن عمير بن هانئ [ ص: 257 ]
وهذا القول غريب هنا ، والقول الأول أظهر في تفسير هذه الآية ، وقد ورد حديث يقويه ، وهو ما قال ابن جرير : حدثني نجيح بن إبراهيم ، حدثنا علي بن حكيم ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عمرو بن قيس الملائي ، عن رجل من بني أمية - من أهل الشام أحسن عليه الثناء - قال : قيل : يا رسول الله ، ما العدل ؟ قال : العدل الفدية .
وقوله تعالى : ( ولا هم ينصرون ) أي : ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله ، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه ولا يقبل منهم فداء . هذا كله من جانب التلطف ، ولا لهم ناصر من أنفسهم ، ولا من غيرهم ، كما قال : ( فما له من قوة ولا ناصر ) [ الطارق : 10 ] أي : إنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ، ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ ، ولا يجيره منه أحد ، كما قال تعالى : ( وهو يجير ولا يجار عليه ) [ المؤمنون : 88 ] . وقال ( فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد ) [ الفجر : 25 ، 26 ] ، وقال ( ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون ) [ الصافات : 25 ، 26 ] ، وقال ( فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم ) الآية [ الأحقاف : 28 ] .
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله : ( ما لكم لا تناصرون ) ما لكم اليوم لا تمانعون منا ؟ هيهات ليس ذلك لكم اليوم .
قال ابن جرير : وتأويل قوله : ( ولا هم ينصرون ) يعني : إنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر ، كما لا يشفع لهم شافع ، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية ، بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرشا والشفاعات ، وارتفع من القوم التعاون والتناصر ، وصار الحكم إلى عدل الجبار الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء ، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها وذلك نظير قوله تعالى : ( وقفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون ) [ الصافات : 24 ، 26 ]
38
( وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ( 49 ) وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ( 50 )
يقول تعالى : واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون أي[ ص: 258 ] خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى ، عليه السلام ، وقد كانوا يسومونكم ، أي : يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب . وذلك أن فرعون - لعنه الله - كان قد رأى رؤيا هالته ، رأى نارا خرجت من بيت المقدس فدخلت دور القبط ببلاد مصر ، إلا بيوت بني إسرائيل ، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل ، ويقال : بل تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم ، يكون لهم به دولة ورفعة ، وهكذا جاء في حديث الفتون ، كما سيأتي في موضعه [ في سورة طه ] إن شاء الله ، فعند ذلك أمر فرعون - لعنه الله - بقتل كل [ ذي ] ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل ، وأن تترك البنات ، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأراذلها .
وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء ، وفي سورة إبراهيم عطف عليه ، كما قال : ( يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ) [ إبراهيم : 6 ] وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة القصص ، إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة والمعونة والتأييد
ومعنى ( يسومونكم ) أي : يولونكم ، قاله أبو عبيدة ، كما يقال : سامه خطة خسف إذا أولاه إياها ، قال عمرو بن كلثوم :
إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقر الخسف فينا
وقيل : معناه : يديمون عذابكم ، كما يقال : سائمة الغنم من إدامتها الرعي ، نقله القرطبي ، وإنما قال هاهنا : ( يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ) ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله : ( يسومونكم سوء العذاب ) ثم فسره بهذا لقوله هاهنا ( اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ) وأما في سورة إبراهيم فلما قال : ( وذكرهم بأيام الله ) [ إبراهيم : 5 ] ، أي : بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك : ( يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ) فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي .
وفرعون علم على كل من ملك مصر ، كافرا من العماليق وغيرهم ، كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافرا ، وكسرى لكل من ملك الفرس ، وتبع لمن ملك اليمن كافرا [ والنجاشي لمن ملك الحبشة ، وبطليموس لمن ملك الهند ] ويقال : كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى ، عليه السلام ، الوليد بن مصعب بن الريان ، وقيل : مصعب بن الريان ، أيا ما كان فعليه لعنة الله ، [ وكان من سلالة عمليق بن داود بن إرم بن سام بن نوح ، وكنيته أبو مرة ، وأصله فارسي من استخر ][ ص: 259 ]
وقوله تعالى : ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) قال ابن جرير : وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا إياكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم . أي : نعمة عظيمة عليكم في ذلك .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس [ في ] قوله : ( بلاء من ربكم عظيم ) قال : نعمة . وقال مجاهد : ( بلاء من ربكم عظيم ) قال : نعمة من ربكم عظيمة . وكذا قال أبو العالية ، وأبو مالك ، والسدي ، وغيرهم .
وأصل البلاء : الاختبار ، وقد يكون بالخير والشر ، كما قال تعالى : ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) [ الأنبياء : 25 ] ، وقال : ( وبلوناهم بالحسنات والسيئات ) [ الأعراف : 168 ] .
قال ابن جرير : وأكثر ما يقال في الشر : بلوته أبلوه بلاء ، وفي الخير : أبليه إبلاء وبلاء ، قال زهير بن أبي سلمى :
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
قال : فجمع بين اللغتين ؛ لأنه أراد فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده .
[وقيل : المراد بقوله : ( وفي ذلكم بلاء ) إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء ؛ قال القرطبي : وهذا قول الجمهور ولفظه بعدما حكى القول الأول ، ثم قال : وقال الجمهور : الإشارة إلى الذبح ونحوه ، والبلاء هاهنا في الشر ، والمعنى في الذبح مكروه وامتحان ] .
وقوله تعالى : ( وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ) معناه : وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون ، وخرجتم مع موسى ، عليه السلام ، خرج فرعون في طلبكم ، ففرقنا بكم البحر ، كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلا كما سيأتي في مواضعه ومن أبسطها في سورة الشعراء إن شاء الله .
( فأنجيناكم ) أي : خلصناكم منهم ، وحجزنا بينكم وبينهم ، وأغرقناهم وأنتم تنظرون ؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم ، وأبلغ في إهانة عدوكم .
قال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله تعالى : (وإذ فرقنا بكم البحر) إلى قوله : ( وأنتم تنظرون ) قال : لما خرج موسى ببني إسرائيل ، بلغ ذلك فرعون فقال : لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة . قال : فوالله ما صاح ليلتئذ ديك[ ص: 260 ] حتى أصبحوا ؛ فدعا بشاة فذبحت ، ثم قال : لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط . فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط ثم سار ، فلما أتى موسى البحر ، قال له رجل من أصحابه ، يقال له : يوشع بن نون : أين أمر ربك ؟ قال : أمامك ، يشير إلى البحر . فأقحم يوشع فرسه في البحر حتى بلغ الغمر ، فذهب به الغمر ، ثم رجع . فقال : أين أمر ربك يا موسى ؟ فوالله ما كذبت ولا كذبت . فعل ذلك ثلاث مرات ، ثم أوحى الله إلى موسى : ( أن اضرب بعصاك البحر ) فضربه ( فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم )[ الشعراء : 63] ، يقول : مثل الجبل . ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في طريقهم ، حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم فلذلك قال : ( وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ) .
وكذلك قال غير واحد من السلف ، كما سيأتي بيانه في مواضعه . وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب ، عن عبد الله بن سعيد بن جبير ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فقال : ما هذا اليوم الذي تصومون ؟ . قالوا : هذا يوم صالح ، هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم ، فصامه موسى ، عليه السلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا أحق بموسى منكم . فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر بصومه .
وروى هذا الحديث البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجه من طرق ، عن أيوب السختياني ، به نحو ما تقدم .
وقال أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو الربيع ، حدثنا سلام - يعني ابن سليم - عن زيد العمي عن يزيد الرقاشي عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فلق الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء .
وهذا ضعيف من هذا الوجه فإن زيدا العمي فيه ضعف ، وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه .
39
( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون ( 52 ) وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون ( 53 )[ ص: 261 ] يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم ، لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه ، عند انقضاء أمد المواعدة ، وكانت أربعين يوما ، وهي المذكورة في الأعراف ، في قوله تعالى : ( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر ) [ الأعراف : 142 ] قيل : إنها ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة ، وكان ذلك بعد خلاصهم من قوم فرعون وإنجائهم من البحر .
وقوله : ( وإذ آتينا موسى الكتاب ) يعني : التوراة ( والفرقان ) وهو ما يفرق بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ( لعلكم تهتدون ) وكان ذلك - أيضا - بعد خروجهم من البحر ، كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف . ولقوله تعالى : ( ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون ) [ القصص : 43 ] .
وقيل : الواو زائدة ، والمعنى : ولقد آتينا موسى الكتاب والفرقان وهذا غريب ، وقيل : عطف عليه وإن كان المعنى واحدا ، كما في قول الشاعر :
وقدمت الأديم لراقشيه فألفى قولها كذبا ومينا
وقال الآخر :
ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونها النأي والبعد
فالكذب هو المين ، والنأي : هو البعد . وقال عنترة :
حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
فعطف الإقفار على الإقواء وهو هو .
40
( وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ( 54 ) .
هذه صفة توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل ، قال الحسن البصري ، رحمه الله ، في قوله تعالى : ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ) فقال ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع حين قال الله تعالى : ( ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا ) الآية [ الأعراف : 149 ] .
قال : فذلك حين يقول موسى : ( يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل )
وقال أبو العالية ، وسعيد بن جبير ، والربيع بن أنس : ( فتوبوا إلى بارئكم ) أي إلى خالقكم .
قلت : وفي قوله هاهنا : ( إلى بارئكم ) تنبيه على عظم جرمهم ، أي : فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره .[ ص: 262 ]
وروى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث يزيد بن هارون ، عن الأصبغ بن زيد الوراق عن القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال الله تعالى : إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كل من لقي من ولد ووالد فيقتله بالسيف ، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن . فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطلع الله من ذنوبهم ، فاعترفوا بها ، وفعلوا ما أمروا به فغفر الله تعالى للقاتل والمقتول . وهذا قطعة من حديث الفتون ، وسيأتي في تفسير سورة طه بكماله ، إن شاء الله .
وقال ابن جرير : حدثني عبد الكريم بن الهيثم ، حدثنا إبراهيم بن بشار ، حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : قال أبو سعيد : عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال موسى لقومه : ( فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ) قال : أمر موسى قومه - من أمر ربه عز وجل - أن يقتلوا أنفسهم قال : واحتبى الذين عبدوا العجل فجلسوا ، وقام الذين لم يعكفوا على العجل ، فأخذوا الخناجر بأيديهم ، وأصابتهم ظلة شديدة ، فجعل يقتل بعضهم بعضا ، فانجلت الظلة عنهم ، وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل ، كل من قتل منهم كانت له توبة ، وكل من بقي كانت له توبة .
وقال ابن جريج : أخبرني القاسم بن أبي بزة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهدا يقولان في قوله تعالى : ( فاقتلوا أنفسكم ) قالا قام بعضهم إلى بعض بالخناجر فقتل بعضهم بعضا ، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد ، حتى ألوى موسى بثوبه ، فطرحوا ما بأيديهم ، فكشف عن سبعين ألف قتيل . وإن الله أوحى إلى موسى : أن حسبي ، فقد اكتفيت ، فذلك حين ألوى موسى بثوبه ، [ وروي عن علي رضي الله عنه نحو ذلك ] .
وقال قتادة : أمر القوم بشديد من الأمر ، فقاموا يتناحرون بالشفار يقتل بعضهم بعضا ، حتى بلغ الله فيهم نقمته ، فسقطت الشفار من أيديهم ، فأمسك عنهم القتل ، فجعل لحيهم توبة ، وللمقتول شهادة .
وقال الحسن البصري : أصابتهم ظلمة حندس ، فقتل بعضهم بعضا [ نقمة ] ثم انكشف عنهم ، فجعل توبتهم في ذلك .
وقال السدي في قوله : ( فاقتلوا أنفسكم ) قال : فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف ، فكان من قتل من الفريقين شهيدا ، حتى كثر القتل ، حتى كادوا أن يهلكوا ، حتى قتل بينهم سبعون ألفا ، وحتى دعا موسى وهارون : ربنا أهلكت بني إسرائيل ، ربنا البقية البقية[ ص: 263 ] فأمرهم أن يضعوا السلاح وتاب عليهم ، فكان من قتل منهم من الفريقين شهيدا ، ومن بقي مكفرا عنه ؛ فذلك قوله : ( فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم )
وقال الزهري : لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها ، برزوا ومعهم موسى ، فاضطربوا بالسيوف ، وتطاعنوا بالخناجر ، وموسى رافع يديه ، حتى إذا أفنوا بعضهم ، قالوا : يا نبي الله ، ادع الله لنا . وأخذوا بعضديه يسندون يديه ، فلم يزل أمرهم على ذلك ، حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم ، بعضهم عن بعض ، فألقوا السلاح ، وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم ، فأوحى الله ، جل ثناؤه ، إلى موسى : ما يحزنك ؟ أما من قتل منكم فحي عندي يرزقون ، وأما من بقي فقد قبلت توبته . فسر بذلك موسى ، وبنو إسرائيل .
رواه ابن جرير بإسناد جيد عنه .
وقال ابن إسحاق : لما رجع موسى إلى قومه ، وأحرق العجل وذراه في اليم ، خرج إلى ربه بمن اختار من قومه ، فأخذتهم الصاعقة ، ثم بعثوا ، فسأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل . فقال : لا إلا أن يقتلوا أنفسهم قال : فبلغني أنهم قالوا لموسى : نصبر لأمر الله . فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده . فجلسوا بالأفنية وأصلت عليهم القوم السيوف ، فجعلوا يقتلونهم ، وبكى موسى ، وبهش إليه النساء والصبيان ، يطلبون العفو عنهم ، فتاب الله عليهم ، وعفا عنهم وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لما رجع موسى إلى قومه ، وكان سبعون رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه . فقال لهم موسى : انطلقوا إلى موعد ربكم . فقالوا : يا موسى ، ما من توبة ؟ قال : بلى ، ( فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم ) الآية ، فاخترطوا السيوف والجرزة والخناجر والسكاكين . قال : وبعث عليهم ضبابة . قال : فجعلوا يتلامسون بالأيدي ، ويقتل بعضهم بعضا . قال : ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ولا يدري . قال : ويتنادون [ فيها ] : رحم الله عبدا صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه ، قال : فقتلاهم شهداء ، وتيب على أحيائهم ، ثم قرأ : ( فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم )
41
( وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ( 55 ) ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ( 56 )
يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق ، إذ سألتم رؤيتي جهرة عيانا ، مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم ، كما قال ابن جريج ، قال ابن عباس في هذه الآية : [ ص: 264 ] ( وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) قال : علانية .
وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق ، عن أبي الحويرث ، عن ابن عباس ، أنه قال في قول الله تعالى : ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) أي علانية ، أي حتى نرى الله .
وقال قتادة ، والربيع بن أنس : ( حتى نرى الله جهرة ) أي عيانا
وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس : هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه . قال : فسمعوا كلاما ، فقالوا : ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) قال : فسمعوا صوتا فصعقوا ، يقول : ماتوا .
وقال مروان بن الحكم ، فيما خطب به على منبر مكة : الصاعقة : صيحة من السماء .
وقال السدي في قوله : ( فأخذتكم الصاعقة ) الصاعقة : نار .
وقال عروة بن رويم في قوله : ( وأنتم تنظرون ) قال : فصعق بعضهم وبعض ينظرون ، ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء .
وقال السدي : ( فأخذتكم الصاعقة ) فماتوا ، فقام موسى يبكي ويدعو الله ، ويقول : رب ، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم ( لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ) [ الأعراف : 155 ] . فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل ، ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا رجل رجل ، ينظر بعضهم إلى بعض : كيف يحيون ؟ قال : فذلك قوله تعالى : ( ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون )
وقال الربيع بن أنس : كان موتهم عقوبة لهم ، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم . وكذا قال قتادة .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، قال : لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل ، وقال لأخيه وللسامري ما قال ، وحرق العجل وذراه في اليم ، اختار موسى منهم سبعين رجلا الخير فالخير ، وقال : انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم . فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه ، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم ، فقال له السبعون - فيما ذكر لي - حين صنعوا ما أمروا به وخرجوا للقاء الله ، قالوا : يا موسى ، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا ، فقال : أفعل . فلما دنا موسى من الجبل ، وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله ، ودنا موسى فدخل فيه ، وقال للقوم : ادنوا . وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع ،
[ ص: 265 ] لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه ، فضرب دونه بالحجاب ، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه : افعل ولا تفعل . فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام ، فأقبل إليهم ، فقالوا لموسى : ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) فأخذتهم الرجفة ، وهي الصاعقة ، فماتوا جميعا . وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ، ويقول : ( رب لو شئت أهلكتهم من قبل [ وإياي ] ) [ الأعراف : 155 ] قد سفهوا ، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا ؟ أي : إن هذا لهم هلاك . اخترت منهم سبعين رجلا الخير فالخير ، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد! فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا ؟ ( إنا هدنا إليك ) [ الأعراف : 156 ] فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ، ويطلب إليه حتى رد إليهم أرواحهم ، وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل ، فقال : لا ؛ إلا أن يقتلوا أنفسهم .
هذا سياق محمد بن إسحاق .
وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير : لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به ، أمر الله موسى أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل ، يعتذرون إليه من عبادة العجل ، ووعدهم موسى ، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عينه ، ثم ذهب بهم ليعتذروا . وساق البقية .
[وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله : ( وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) والمراد السبعون المختارون منهم ، ولم يحك كثير من المفسرين سواه ، وقد أغرب فخر الدين الرازي في تفسيره حين حكى في قصة هؤلاء السبعين : أنهم بعد إحيائهم قالوا : يا موسى ، إنك لا تطلب من الله شيئا إلا أعطاك ، فادعه أن يجعلنا أنبياء ، فدعا بذلك فأجاب الله دعوته ، وهذا غريب جدا ، إذ لا يعرف في زمان موسى نبي سوى هارون ثم يوشع بن نون ، وقد غلط أهل الكتاب أيضا في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل ، فإن موسى الكليم ، عليه السلام ، قد سأل ذلك فمنع منه فكيف يناله هؤلاء السبعون ؟
القول الثاني في الآية ] قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية : قال لهم موسى - لما رجع من عند ربه بالألواح ، قد كتب فيها التوراة ، فوجدهم يعبدون العجل ، فأمرهم بقتل أنفسهم ، ففعلوا ، فتاب الله عليهم ، فقال : إن هذه الألواح فيها كتاب الله ، فيه أمركم الذي أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه . فقالوا : ومن يأخذه بقولك أنت ؟ لا والله حتى نرى الله جهرة ، حتى[ ص: 266 ] يطلع الله علينا فيقول : هذا كتابي فخذوه ، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى ! وقرأ قول الله : ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) قال : فجاءت غضبة من الله ، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة ، فصعقتهم فماتوا أجمعون . قال : ثم أحياهم الله من بعد موتهم ، وقرأ قول الله : ( ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ) فقال لهم موسى : خذوا كتاب الله . فقالوا : لا فقال : أي شيء أصابكم ؟ فقالوا : أصابنا أنا متنا ثم حيينا . قال : خذوا كتاب الله . قالوا : لا . فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم .
[وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا . وقد حكى الماوردي في ذلك قولين : أحدهما : أنه سقط التكليف عنهم لمعاينتهم الأمر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق ؛ والثاني : أنهم مكلفون لئلا يخلو عاقل من تكليف ، قال القرطبي : وهذا هو الصحيح لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم ؛ لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أمورا عظاما من خوارق العادات ، وهم في ذلك مكلفون وهذا واضح ، والله أعلم ] .
بعده ان شاء الله
بعده ان شاء الله صفحة:
42
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق